أربعة أمراض خطيرة تذهب عليك سعادتك في الدنيا والآخرة: الجهل والظلم والشهوة والغضب, فهي أمراض إن لم تتدارك نفسك بتغسيل قلبك منها لا شكّ أنك ستحزن طويلا, وتبكي مرارا, وتيأس طول حياتك.
الجهل موت للضمير, وذبح للحياة، ومحق للعمر{إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}() وضده العلم نور البصيرة، وحياة للروح، ووقود للطبع{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}() إن السرور والانشراح يأتي مع العلم، لأن العلم عثور على الغامض، وحصول على الضالة، واكتشاف للمستور، والنفس مولعة بمعرفة الجديد والاطلاع على المستطرف{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}().
الجهل فهو ملل وحزن، لأنه حياة لا جديد فيها ولا طريف، ولا مستعذبا، أمس كاليوم، واليوم كالغد{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}().
الجهل شجرة خبيثة تثمر كل شر وبلاء وقبيح، فهو يُري الإنسان الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والنقص كمالاً، والكمال نقصاً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، ويريه الحياة الطيبة نكدة تعيسة, وينظر إلى سعادته بعين الحزن, والعلم شجرة طيبة تثمر كل خير وبركة ومليح ويعطي الناظر به عين الحقيقة, فينظر إلى السعادة فيسعد, وينظر إلى السرور فيسرُّ ويفرح.
فالجهل موت لأصحابه، والجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن، فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض, وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له كانت ميتة حقيقة.
فإن كنت تريد السعادة فاطلب العلم وابحث عن المعرفة وحصل الفوائد، لتذهب عنك الغموم والهموم والأحزان التي يجلبها الجهل{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}(){اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(). ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) (). ولا يفخر أحد بماله أو بجاهه، وهو جاهل صفر من المعرفة، فإن حياته ليست تامة وعمره ليس كاملا{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}().
والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة, ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع الإمساك، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام, ويحزن والحياة فيها السعادة والسرور, ويخاف والحياة فيها الأمن, يحزن لنعمة غيره, ولا ينظر لنعمته؛ ويصور له الحياة على غير ما هي عليه فيصور له السعادة أحزان, والجمال قبيح, والنور ظلام, لأنه يضع الأمور في غير مواضعها.
والظلم له حالات: ظلم لله, وظلم لعباد الله, وظلم للنفس, وكل ذلك تعاسة العبد في دنياه وآخرته لأن هناك موطن يسمى العدل{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}().
أحياناً قد يظلم الظالم في حكمه، ويجنح عن العدل، لا لمصلحة نفسه، ولكن لمصلحة قريب أو حبيب أو صاحب، وهكذا يضيع العدل، وإذا ضاع العدل وجد الظلم، وإذا وجد الظلم وجدت الشحناء والبغضاء، وإذا وجدت الشحناء والبغضاء، كان الاختلاف والاختصام، وإذا وجد هذا كان التنازع والاقتتال، وضاعت سمة أهل الإسلام، وسمة الأخوة والإنصاف.
تكلم بالعدل، واحكم بالعدل، وخاصم بالعدل، وعاهد بالعدل، والمقسطون العادلون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن، -وكلتا يديه يمين- لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وإذا ساد العدل حفظت الحقوق، ونصر المظلوم، وولت الهموم، وأدبرت الغموم، وغمرت السعادة, أما حينما يتجافى الناس عن العدل، ويقعون في الظلم، فإنه ينبت فيهم الحقد والقطيعة والفرقة وذهاب الريح, وتكثر الأحزان.
الظلم واسع المعنى، يتناول وضع الأشياء في غير مواضعها، وانتقاص الناس في حقوقها، والتفريط في الواجبات، واقتحام المنهيات، يقول الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: والظلم مبارزة الرب بالعصيان، وهو لا ينشأ إلا عن ظلمة القلب، والعبد إذا اكتنفته ظلمات ظلم لم يغنه بعد ذلك شيء().
الظلم وخيم المرتع، سيئ العاقبة، هو منبع الرذائل، ومصدر الشرور، إذا فشا في أمة أهلكها، وإذا حل بقوم فرقهم، به تخرب الديار، وتزول القرى والأمصار، وتنتشر الفوضى ويعم الهرج.
وما تزول الدول ولا يضطرب الحال إلا بسب الظلم والتعسف والجور{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}() {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ}().
وجزاء الظلم سريع النزول معد للعقوبة، يقول بعض السلف: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها إلى صاحبها ظلم من لا ناصر له، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير().
الظلم ليس له بقاء, أين الطواغيت والظالمون في كل زمان؟! أين قارون؟! أين فرعون؟! أين هامان؟! أين النمرود بن كنعان؟! أين أصحاب الأخدود؟! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي؟!
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم...وذكرهم في الورى ظلم وطغيان
هل فارق الموت ذا عز لعزته ...أو هل نجا منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدم... الكل يفنى فلا إنس ولا جان.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}().
والشهوة تحمل العبد على الحرص والطمع، والبخل والشح، والنهمة والجشع، والذل وعدم العفة، والدناءات كلها, فيبقى العبد في الدنيا ذليلا مكسور الجناح؛ لأنه يعبد شهوته, ويتبع شهوته, فقادته إلى المهالك والشقاوة والأحزان, فعاش في دنياه حزينا يتمنى السعادة. قال عمر بن الخطاب: اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طلاعة تنزع إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مري، وإن الباطل خفيف وبي، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا().
فكل شهوة ولذة محرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها أو فعلها، مثمرة للألم والحزن حال انقضائها، موجبة للعقوبة حال اشتهارها{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}().
والشهوة تمنع القلب من أن يسعد, وتمنع العقل من أن ينور بالعلم والمعرفة, وتمنع الصدر من أن ينشرح, وتمنع الجوارح من حركة الحياة والجوارح السبع هي اللسان، والسمع، والبصر، واليدان، والرجلان، والبطن، والفرج، وجعلت مستقر هذه الشهوة في البطن، فإن اشتهى الكلام خرج سلطان تلك الشهوة إلى الصدور إلى القلب، والقلب أمير على هذه الجوارح، فإذا غلب سلطان الشهوة وحلاوتها ولذتها على القلب، وانكمن سلطان المعرفة وحلاوتها ولذتها في القلب، وسلطان العقل وزينته وبهجته في الدماغ، تحير الذهن عن التدبير، وخمد نور العلم في الصدر، فظهرت المعصية على الجوارح؛ وإذا غلب سلطان المعرفة ولذتها وحلاوتها، وسلطان العقل وزينته وبهجته، احتد الذهن، واستنار العلم، وانتشر وأشرق، وقوى القلب، فقام منتصباً متوجهاً بعين فؤاده إلى الله –تعالى-، وجاء المدد والعطاء، وظهرت العزيمة على ترك المعصية العارضة فإذا ظهرت العزيمة وجد القلب قوة على زجر النفس، ورفض ما عزمت عليه، فانقمعت النفس وذابت، وسكن غليان الشهوة، وماتت اللذة، وسكنت العروق، ودست صورة تلك المعصية عن الصدر، وتخلص العبد()، فأمر العبد بالصبر.
والصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة: فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة, وإما أن تقطع لذة أكمل منها, وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة, وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه, وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه, وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة, وإما أن تجلب هماً وغماً، وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة, وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة, وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً, وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة, وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول.
ولست أمنع عليك التلذذ بالنعم وبالحياة الطيبة التي رزقك الله إياها, ولكن أُريدك أن تأخذ من شهواتك ما يعينك على الحصول على السعادة التي هي المطلوب لكل إنسان, فكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهي محبوبة للرب مرضية له، وصاحبها يتلذذ بها؛ فهذه اللذة هي التي ينبغي للعاقل أن يسعى في تحصيلها، لا اللذة الي تعقبه غاية الألم، وتفوت عليه أعظم اللذات، ولهذا يثاب المؤمن على كل ما يلتذ به من المباحات إذا قصد به الإعانة والتوصل إليها عن طريق محبة الله –تعالى- وإلى لذات الآخرة ونعيمها.
واللذة والبهجة، والفرح والسرور، وقرة العين به، مقصود كل حي، فلا بد من مراد مطلوب محبوب للنفس، فإذا حصل المطلوب المراد، فاقتران اللذة والنعمة والفرح والسرور وقرة العين به على قدر قوة محبته –سبحانه- وإرادته والرغبة فيه.
فإنه ليس للقلب والروح، ألذ ولا أطيب، ولا أحل ولا أنعم، من لذة محبة الله، والإقبال عليه، وعبادته ورؤيته والأنس به, ومثقال ذرة من هذه اللذة لا يعدله أمثال الجبال من لذات الدنيا.
وأكمل الناس لذة من جمع له بين: لذة القلب .. ولذة الروح .. ولذة البدن.
فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه, فهو ممن راضوا أنفسهم وأدبوها، بمنعها الشهوات التي أطلقت لهم، فلم يمكنوها من تلك الشهوات إلا مالا بد منه، كهيئة المضطر، حتى ذبلت النفس، وطفئت حرارة تلك الشهوات، ثم زادوها منعاً حتى ذبلت واسترخت، فكلما منعوها شهوة آتاهم الله على منعها نوراً في القلب، فقوى القلب، وضعفت النفس، وحيى القلب بالله -جل ثناؤه-، وماتت النفس عن الشهوات، حتى امتلأ القلب من الأنوار، ودخلت النفس من الشهوات، فأشرق الصدر بتلك الأنوار، فجلب على النفس خوفاً وخشية وحياء، واستولى على النفس وقهرها، فالولايات على النفوس من القلوب بالإمرة التي أعطيت القلوب، بما فيها من المعرفة؛ فعلى حسب تأديب القلب النفس ينال القلب ولاية وسلطاناً، فإذا أشرقت الأنوار من القلب في الصدر، وخلا الصدر من دخان الشهوات، أبرز القلب سلطانه، فانقادت النفس وسلست، وألقت بيدها سلماً، وانكمن العدو واختشى(){قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}().
وأنجس الناس حظاً من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة، فيقال له يوم القيامة، يوم استيفاء اللذات: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}() فهؤلاء تمتعوا بالطيبات .. وأولئك تمتعوا بالطيبات، وافترقوا في وجه التمتع.
فأولئك تمتعوا بالطيبات على الوجه الذي أذن لهم فيه، فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة.
وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، سواء أذن لهم فيه أم لا؟. فانقطعت عنهم لذة الدنيا، وفاتتهم لذة الآخرة، فما أخسر هؤلاء!، فلا لذة الدنيا دامت لهم، ولا لذة الآخرة حصلت لهم().
وأعظم الأسباب التي تحصل هذه اللذة، هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق، وهي لذة معرفته –سبحانه-، ولذة محبته، فإن ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي.
وأطيب ما في الدنيا معرفته –سبحانه- ومحبته، وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته، فمحبته ومعرفته قرة العيون، ولذة الأرواح، وبهجة القلوب، ونعيم الدنيا وسرورها.
فليست الحياة الطيبة إلا بالله ولله، والروح والقلب والبدن إنما خلقت لعبادة الله، والتلذذ بطاعته ومناجاته والقرب منه. فمن أحب اللذة العظمى الدائمة فليجعل لذة الدنيا موصلة له إلى لذة الآخرة، فكلما التذ بلذات الدنيا، ذكرته بالله ولذات الجنة الأبدية.
والغضب أقوى الأسباب التي تحرمك من السعادة؛ لأنه يفقدك توازنك فتصبح بعده حزينا, نادما على ما سبق فعله وقت الغضب, فتلجأ إلى التذلل للاعتذار.
والله –سبحانه- خلق طبيعة الغضب من النار، وغرزها في الإنسان، فمهما صد عن غرض من أغراضه وحوائجه اشتعلت نار الغضب، وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب، ثم ينتشر في العروق، ثم يرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشرة لصفائها تحكي لون ما ورائها من حمرة الدم.
وإنما ينبسط الدم وينتشر إذا غضب الإنسان على من دونه، واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من فوقه، وكان معه يأس من الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون.
الغضب فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط، فيحمر ويصفر ويضطرب().
الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة, التي تطلع على الأفئدة, وإنها لمستكنة في طي الفؤاد, استكنان الجمر تحت الرماد, ويستخرجه الكبر الدفين, في قلب كل جبار عنيد, كاستخراج الحجر النار من الحديد, وقد انكشف للناظرين بنور اليقين, أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين ,فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ()فإن شأن الطين السكون والوقار ,وشأن النار التلظي والاستعار والحركة والاضطراب, ومن نتائج الغضب الحقد والحسد, وبهما هلك من هلك, وفسد من فسد, ومفيضهما مضغة إذا صلحت صلح معها سائر الجسد, وإذا كان الحقد والحسد والغضب مما يسوق العبد إلى مواطن العطب فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساويه ,ليحذر ذلك ويتقيه ,ويميطه عن القلب إن كان وينفيه ,ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه ,فإن من لا يعرف الشر يقع فيه,ومن عرفه فالمعرفة لا تكفيه ,ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه().
والغضب في الإنسان بمنزلة نار تشتعل والناس يختلفون فيه، فبعضهم: كالحلفاء سريع الوقود وسريع الخمود، وبعضهم: كالغضى بطيء الوقود بطيء الخمود، وبعضهم: سريع الوقود بطيء الخمود، وبعضهم: على عكس ذلك وهو أحمدهم ما لم يكن مفضيًا به إلى زوال حميته وفقدان غيرته، واختلافهم تارة يكون بحسب الأمزجة فمن كان طبعه حارًّا يابسًا يكثر غضبه، ومن كان بخلافه يقل، وتارة يكون بحسب اختلاف العادة فمن الناس من تعود السكون والهدوء وهو المعبر عنه بالذلول والهين واللين، ومنهم من تعود الطيش والانزعاج فيحتد بأدنى ما يطرقه ككلب يسمع صوتًا فينبح قبل أن يعرف ما هو، وأسرع الناس غضبًا الصبيان والنساء، وأكثرهم ضجرًا الشيوخ، وأجل الناس شجاعة، وأفضلهم مجاهدة، وأعظمهم قوة من يكظم الغيظ، وعلى ذلك دلَّ قوله –تعالى-: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}()وقد قيل: الغضب جنون ساعة، وربما أفضى إلى تلف باختناق حرارة القلب فيه، وربما كان سببًا لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف().
قال الماوردي: فينبغي لذي اللب السوي، والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدها، ويقابل دواعي شرّته بحزمه فيردها; ليحظى بأجل الخيرة، ويسعد بحميد العاقبة().
فمن وفق لترك الغضب أفلح وأنجح، وإلا فلن يصفو له عيش، ولن يهدأ له بال، ولن يرتقي في كمال.
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلا من طبعه الغضب.
فاجتنب هذه الأربع التي تفسد عليك معيشتك, وتظلم عليك سماء حياتك, وتضيق عليك هواء راحتك, فإذا استحكمت هذه الأربعة في القلب أرته الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، والمعروف في صورة المنكر، والمنكر في صورة المعروف، وأرته الأحزان في صورة السعادة, والسعادة في صورة الأحزان, وقربت منه الدنيا، وبعّدت منه الآخرة, وجعلته يمشي في ظلمات الحياة كمن يمشي بدون نور يستضيء به؛ فمآله إلى الخسران في الدنيا والآخرة.