مهما تعاظم معك الداء فإن مآله إلى زوال، ومهما اشتد سواد الليل{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيْبٍ}()؟! بلى, وربي إنه لقريب!.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان أظنها لا تفرج
وانظر فيمن حولك من الناس ستجد فيهم من هو أعظم بلاءً مما أنت فيه، وانظر وقلِّبْ نظرك فسترى، وسترى ما لا يقوم له بصرك من أدواء الناس، وبلاياهم, فإن لم تجد في نفسك من الإيمان الباعث على الصبر والاحتساب -وظني بك أنك نعم المؤمن الصابر المحتسب إن شاء الله- ما يهوِّن عليك مصيبتك؛ فاجعل أدواء الناس لك دواءً.
أنزل أدواء الناس، وبلاياهم، ومصائبهم، وأمراضهم على بليتك، ومصيبتك، ومرضك؛ يخف ويهون وقد يتلاشى ويزول - إن شاء الله- فمن نظر إلى مصيبة غيره تَهون مصيبته، واقرأ في كتب الغابرين تجد مصائب الناس مسطورة، وفي التاريخ مأثورة.
واقرأ القرآن، اقرأ خير كتاب في ذلك، سيحدثك عن أمراض عباد الله الصالحين، وعن محن المقربين، وشكاوى العابدين, فذا أيوب؛ كم عانى من المرض؟ ولله صبره ما أجمله! أي قلب عامر بالإيمان يحمل بين جنبيه! لا تقل لي: قلب نبي؛! فأقول لك: نعم! نبي ولكنه بشر يَأْلم كما تَأْلم، ويحس كما تحس، ويحزن، ويغتم، ويصيبه ويعرض له من الأدواء والأرزاء ما يعرض للآخَرين، بل هو في ذلك أشد بلاءً، وأعظم امتحاناً من غيره.
وهذا يونس -عليه السلام-, ويا لها من شدة، وكربة، وجد نفسه فيها! لم يجد بشر نفسه فيها قبله، حيث حبسه الله في بطن الحوت، فأسقمه البلاء، قال –تعالى-: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيْمٌ}() نعم أسقمه السجن، وأمرضه، حتى عاد جسمه رخواً ليِّناً لا يقوى حتى على القيام، من الذي ما ساء قط، وما خص الرجال بالبلاء دون النساء؛ فللنساء من البلاء نصيب أيضاً.
فهذه مريم العذراء البتول, رميت عن قوس الإفك بسهام الريبة، وتهمة الزنا؛ وهي الصبية العذراء العفيفة، الضعيفة التي لا تملك حيلة، ولا تستطيع سبيلاً، حتى تمنت الموت على الحياة ولم يكن هذا الذي كان، وهي المؤمنة التي تعلم أنه اختيار الله، وقدره، ومشيئته، فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيَاً مَّنْسِيّاً}() والنسي المنسي هو اللبن الذي ترك حتى تغير طعمه ومذاقه، تتمنى أن لو كانت لبناً تُرِك وأُهْمِل على هذا البلاء الذي اصطفاها الله له، ومع هذه الحسرات، وما يظهر في كلامها وشكواها من ضعف وعجز، إلا أنها صبرت لهذا الأمر، وقامت به فماذا كان؟ وما قيل لها؟ وكيف كانت عاقبة أمرها؟{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي}() وكم كانت بحاجة إلى أن يقال لها: {لَا تَحْزَنِي} فكم كانت مريم بحاجة إلى هذا المدد! وأن تسمع مثل هذه الكلمات؛ لتشد وتربط على قلبها؛ وتعلم أن الله معها، وأنه ليس بتاركها، فتنزلت عليها السكينة، وغشيتها الرحمة، وكفاها الله ما أهمها.
ولا شك أن البلاء يُحْزن، فكم من مريض أحزنه المرض؛ بحاجة أن يقال له: (لَا تَحْزَنْ) ، ودواؤه أن له: (لَا تَحْزَنْ)، وكم من حزين بسبب مصيبة أو كربة، أو شدة؛ ولذلك عندما اشتد الطلب من قريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأبي بكر -رضي الله عنه- عند الهجرة، حتى كاد أن يدركهم الطلب، فقام بعض كفار قريش على باب الغار، وأخذ أبو بكر ينظر أقدامهم وهم لا يرونه فحزن -رضي الله عنه- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلسان الواثق بربه، ووعده، ونصره وتأييده: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}() فنزلت بعدُ السكينة.
وذاك إبراهيم -عليه السلام, ولا يخفى عليك- ما كان من أمره وهو الفتى الصغير الضعيف الذي لا حول له ولا قوة مع قومه، وكيف رمي في النار؟ وكيف أنجاه الله؟ ولو أخذت أقص عليك من القرآن في هذا الباب لصار اللبن الحليب كالقَار والقَطِرَان من هول البلاء، وعِظَمِ الداء، ولو قلَّبت صفحات القرآن فستجد في الذكر الحكيم ما يهون عليك مصيبتك، ويكون لك بلسماً وشفاءً.
هذه امرأة طريحة الفراش ظلت خمس سنوات -ولا زالت- طريحة الفراش لا تتحرك.. لا شيء فيها يتحرك سوى الرأس والعينين فقد عطل المرض كل عضو فيها فلا حراك اليوم.
جسد هَدَّهُ المرض، وأفناه الداء، تهاوى تحت شدته، وسقط تحت سطوته, فجعله حطاماً لا يرجى صلاحه، أو ينتظر برؤه.
لو أبصرتها أبصرت هشيم المُحْتَضَر، ولو رأيتها رأيت الحزن أمامك ماثلاً: (فمنظر الحزْن مشهودٌ بمنظرها)، بقايا نفس كانت بشراً! لا تملك حتى أن تَئِنَّ، وبعض الأنين رحمة! حتى اللسان أبكمه المرض، وأخرسه البلاء، فلا تسمع إلا همهمة كهمهمة الخرس البكم الذين لا يتكلمون.
يقول لي زوجها: أنا أقوم على خدمتها أغسلها، وأنظفها ولا أسمح لأحد أن يقوم بهذا عني، زوجتي منذ خمسة وعشرين عاماً، ليس لدينا أولاد، مرضت قبل خمس سنوات، والحمد لله.
بالله عليك كيف ترى نفس هذه المرأة؟ أي نفس نفسها؟ لها عينان تبصران، وعقل يعي، ونفس تتمنى وترجو كيف تراها من الداخل وهي ترى الأصحاء، المعافين في أبدانهم، كيف يقومون؟ وكيف يتحركون؟ وهي طريحة الفراش، لا تقوى أن تحرك في بدنها ذرة.
ألن يوسوس لها شيطانها بسوء حظها العاثر؟! ألن تندب نفسها؟! أليست هذه حياة!؟ بلى حياة؛ ولكنها مريرة؟ فأي حياة هذه؟ أم كيف هو الزوج الذي يحمل أعباء امرأة ليست بالطفل الصغير!؟ وأنا أعجب والله منه في شيئين: في صبره على خدمة زوجه! وفي وفائه لها!.
وهذه طفلة صغيرة، تشكو تضخم الرأس، عندما أبصرت رأسها هالني منظره، واستعظمت ضخامته، وحجمه، رأس ضخم لا كالرؤوس، لو وضع على أضخم جثة بشرية لاستضخمه الناس؛ فكيف وهو على جثة صغيرة لا يتجاوز عمرها السنوات، والبنت طريحة الفراش منذ ولدت ورأسها يزداد كل يوم ضخامة إلى اليوم الذي رأيتها فيه، ولا يجدون لها دواءً، عجز الطبيب بطبه، وماذا صنع الدواء؟ لا شيء لم يستطع حتى أن يوقف تضخم الرأس! والرأس كل يوم في زيادة.
ظنوا دائها مساً! وليس بمس! ظنوه سحراً! وما هو بسحر! ظنوه عيناً! وليس بعين!.
فماذا يكون إذن؟ هذا علمه إلى الله.
والصغيرة طريحة الفراش، لا أحد يضمها، أو يشمها، ولا أحد يحملها أو يحركها،-ونفس صغيرة كهذه تحتاج شيئاً كهذا كحاجتها إلى الطعام والشراب- ومن ذا سيحملها؟! لا أحد يقوى، فرأسها سيكسر رقبتها ويدقها إن حُرِّكتْ، أو حملت.
بالله عليك -يا أخي-؛ أيُّ نفس معذبة باكية بين جنبي هذه الصغيرة؟ وأي قلب حزين قلب أمها؟ تصور بالله عليك حاول وقل لي:كيف ستدخل الراحة نفسها؟ أم كيف تسكن الطمأنينة قلبها، وطفلتها الصغيرة هذا حالها؟ وأنت تعرف قلب الأم الرؤوف الرحيم، الودود الحنون.
فإن كنت -يا أخي- تملك عيناً تبكي بها على ما أصابك ففي دنيا الناس من لا عين له يبكي بها، فَكَفْكِفْ دُمُوعَكَ.
أي –أخي- إن بالناس من المصائب ما ليس بك، فأنزل مصائبهم على مصيبتك تهون! وأنزل على ما تشتكي ما يشتكون! كم في هذه الدنيا من النفوس المعذبة؟ كم وكم؟؟ فمن لها؟ من للعيون الباكية؟ فاصبر -أي أخي-؛ صبر الكريم؛ فإن الله أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك، واعلم أنك لن تزداد بالصبر عند الله إلا رفعة، وإيماناً، وديناً، ومنزلة.
واعلم أيضاً أن الله يصلي على الصابرين المسترجعين من أهل البلاء ولهم رحماته، قال –تعالى-: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}().
أي أخي!
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي اللهُ بعضَ القومِ بالنعم
فلعل بلاءك نعمة وإن كان عظيماً ...فحسبك الله في كل لك الله.