مجالس الذكر لها طعم لا تتذوقه اللسان بل هو شيء يحسه المرء بقلبه, لهو أحلى وألذ من طعم الحلو عن طريق اللسان قال ابن القيم -رحمه الله-: من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فليستوطن مجالس الذكر، فإنها رياض الجنة().
انغمس في هذه المجالس, وانظر لتلك السعادة التي تملى قلبك, سعادة ما لها مقياس, وما لها وزن, فو الله أنني جرّبت ذلك وكنت مع رفاقي -أعانهم الله- نتنقل من مسجد إلى آخر نهاية كل أُسبوع, والسعادة والفرحة التي تملى قلبي حين الذهاب, وحين الجلوس, لا أستطيع أن أصفها لك الآن, حتى أنني من شدة السرور أعُدُّ ساعات الأسبوع ساعة تلو الأُخرى حتى يجي ذلك اليوم.
انغمس فيها وانظر ماذا تجد!؟ ستجد نفسك كالسمك في الماء ما إن يخرج من الماء إذ به يشتاق للرجوع إلى الماء؛ لأن في الماء أُنسه وحياته.
ومجالس الذكر تغنيك عن الطعام والشراب, قال ابن القيم: شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر, ثم جلس يذكر الله –تعالى- إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي. أو كلاما قريبا من هذا.. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله تعالى روحه- يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟().
إن لمجالس الذكر وحلقات العلم نور, والقاعد فيها يقتبس من ذلك النور, والذي يدوام على مجالس الذكر لا يستطيع أن يبقى بدون نور. فلو أنت جالس في نور الكهرباء, وفجأة انطفأ ذلك النور -أي نور الكهرباء- هل تستطيع أن تبقى في الظلام؟! لو جاملتني ستقول: نصف ساعة أو ساعة ثم تخرج؛ هكذا هي مجالس العلم والذكر, لها نور ولها لذة ولها طعم, فالجالس فيها لا يستطيع أن يتركها, فيبقى منتظرا للقاء القادم وموعد الحلقة القادمة وهو في شوق ولهفة وسرور لمجيء ذلك الوقت.
لماذا كل هذا النور؟! ولماذا كل هذه السعادة؟! ولماذا كل هذا الانتظار؟! ما سبب ذلك كله؟!. الجواب: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده)) ()((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وأين رياض الجنة? قال مجالس الذكر)) ().
إن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر والنعيم الذي يحصل لقلبه لكفى به، ولهذا سميت مجالس الذكر رياض الجنة، قال مالك بن دينار: وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله -عز وجل-، فليس شيء من الأعمال أخف مؤنة منه ولا أعظم لذة ولا أكثر فرحة وابتهاجاً للقلب().
قال الله ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) (). فيا لها من روعة أن يذكرك الله في الملأ الأعلى! وعند من يذكرك!؟. عند الملائكة المطهرين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
قال ابن الجوزي: لله في مجالس الذكر من عين محرّمة على النار,كم قد وضع فيها عن الظهور من ثقل الأوزار, وتنفجر فيها ينابيع الرحمة, ويتوفر فيها على الحاضرين من النعمة, ويعطى كل سائل ما سأله, ومبلغ كل آمل ما أمله, من كرم ذي الجلال والإكرام, ومواهب من له الفضل والإنعام, الذي لا يتعاظم ذنب غفره لجانيه, ولا فضل ولا هبة لسائله, فاحضروا في هذه الساعة قلوبكم, واغسلوا بمياه التوبة ذنوبكم, واستغفروا ربكم فانه يغفر ذنوب المستغفرين, واعتذِروا إليه من تقصيركم فانه يقبل عذر المعتذرين, واستنصروه على من بغى عليكم فما أسرع نصرته إلى المنتصرين.
قال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة بليغة وجلت منها القلوب, وذرفت منها العيون, وقال ابن مسعود: نعم المجالس المجلس الذي تنشر فيه الحكمة, وترجى فيه الرحمة, هي مجالس الذكر. وشكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: أدنه من الذكر وقال: مجلس الذكر محياة العلم, ويحدث في القلب الخشوع القلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر().
بذكر الله ترتاح القلوب ... ودنيانا بذكراه تطيب.
كان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا وعليهم السكينة والوقار, فمنهم من كان لا يستطيع أن يأكل طعاما عقب ذلك, ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه.
فيا من ضاع قلبه أُنشده في مجالس الذكر عسى أن تجده .. يا من مرض قلبه احمله إلى مجالس الذكر لعله أن يعافى .. مجالس الذكر مارستان الذنوب تداوي فيها أمراض القلوب كما تداوي أمراض الأبدان .. في مارستان الذكر نزه لقلوب المؤمنين يتنزه فيها بسماع كلام الحكمة كما يتنزه أبصار أهل الدنيا في رياضها وبساتينها.
والذي يحضر مجالس الذكر والإيمان يكرمه الله بعشر كرامات:
فعلى أهل مجالس الذكر تنزل السكينة .. وتغشاهم الرحمة .. وتحفهم الملائكة .. ويذكرهم الله فيمن عنده .. ويناديهم مناد انصرفوا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات .. ويوقظهم الله من سنة الغفلة .. وتستضيء قلوبهم وتشرق حتى ترى معالم قدرة الله .. ويعطيهم الله القوة لضبط نفوسهم من الانزلاق في طريق النقائص والرذيلة .. ويحبهم الله -عزَّ وجلَّ-.
إذاً: فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، وكل مضاف إلى شكله، وكل امرئ يصير إلى ما يناسبه، فليختر العبد أعجبهما إليه، وأولاهما به، والذاكر يسعد به جليسه بخلاف الغافل واللاغي فإنه يشقى به جليسه ويتضرر, وأنت اختار لك أيّ الطريقين تشاء لجلب سعادتك.