الحياة السعيدة التي تطلبها ليست على نمط واحد, ولا على وتيرة واحدة, بل هي عبارة عن صفحات أنت من يقلبها, فقلبها تقليبا يسهل عليك قراءة ما فيها من ألوان السعادة والسرور لتعش عيشة طيبة, عيشة ذات ألوان.
لو فكّرت أن تعيش في الحياة على نمط واحد, ولون واحد, لن تستطيع أن تحجب عن نفسك سهام الحزن, وكوابيس الملل؛ لأنك أنت الغلطان! والإنسان بطبعه يملّ ويسأم من العيش على حالة واحدة.
ولذلك ربنا بعلمه غاير بين كل مخلوقاته, فخلق البشر من تراب, ولم يجعلهم على شكل واحد, بل غاير بين ألوانهم, فمنهم: الأسود والأبيض, والأحمر والأخضر. وغاير بين أشكالهم, فمنهم: الطويل والقصير, والسمين والنحيف, والحسن والقبيح. وغاير بين طبائعهم فمنهم المسلم والكافر, والمؤمن والمنافق, والأمين والخائن, والكريم والبخيل, والغني والفقير. حتى غاير بين الأشجار, فمنها: الطويلة والقصيرة, وذات الثمر والشوك, والحلو والحامض. وجعل الليل والنهار, والظل والحرور, والسهول والجبال, والمياة, منها: العذب الحالي, والملح الأُجاج, ومنها: البارد والحارّ. حتى ما في بطون الحشرات{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}() والزروع: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}() والثمار: {مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}() والجبال: {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا}()والأحوال: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}().
وانظر في القرآن الكريم فهو لم يمشِ على نمط واحد, بل بأسلوبه المذهل ينتقل من لون إلى آخر, فأحيانا يذكر نوح وما جرى معه, ثم ينتقل إلى موسى وما جرى معه, ثم ينتقل إلى غيره ليبيّن ما جرى معهم, وأحيانا يذكر الدنيا وما فيها ثم ينتقل إلى ذكر الآخرة, وأحيانا يذكر الكفار ثم ينتقل لذكر المنافقين ثم إلى ذكر المؤمنين, أُسلوب القرآن في عرض الأحداث والقصص ممتع لا تكاد أنت بقراءته أن تشعر بالملل والضيق؛ لأنه ينقلك من مشهد إلى آخر, ومن قصة إلى أخرى, لتتلذذ بقراءته, وتطعم طعم تلاوته.
وأنت تأمل العبادات، ستجد التنوع والتلون، فأعمال قلبية وقولية وعملية ومالية، الصلاة: قيام وركوع وسجود وجلوس. الحج: طواف وسعي ورمي ودعاء وغير ذلك.
هذه هي الحياة وما فيها, لم يجريها الله على حالة واحدة, بل نوّع وغاير بينها, وأنت إن أردت أن تعيش مسرور سعيدا دون أن تشعر بالملل والضبح فكن كما يقال: خطوة بدل, يعني: غير تلك الحالة التي أنت عليها إلى حالة أخرى.
اجعل وقتك مقطع بين العبادة والراحة, بين النوم والصحوة, بين العمل والجلوس, بين الأكل والشرب. وقتا للعبادة, وللنوم, وللعمل, وللقراءة, وللضحك, وللمزاح, وللأكل, وللراحة. ففي حالة العبادة إذا قضيت الصلاة مثلا: اشرع بالتسبيح, ثم اجلس قليلا لقراءة القرآن, ثم بعد ذلك ارفع رأسك وتفكّر في بديع صنع الله, وهكذا تمتع وأنت تقلب صفحات العبادة اللذيذ تقليبها.
وفي حالة القراءة: اقرأ القرآن, وانظر التفسير, وطالع الفقه, وتبصّر في الحديث, وسارع في السيرة لمعرفة تاريخ الأدب والثقافة.
وهكذا في حالة الحركة لجسمك عبادة وراحة, وأكل وقراءة, وشغل وزيارة, ونزهة وللبدن رياضة, ونوّع في حركة بدنك.
وفي حالة الطعام لا تكتفي بنوع واحد من الطعام بل غاير ونوع, فتارة لحم, وتارة بيض, وتارة خضار, وتارة خبز على ماء؛ لتشعر بحلاوة الطعام إن كان ملوناً, حتى بني إسرائيل ملّت نفوسهم ولم تشتهي الطعام الواحد فقالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}().
فكن ذكيا ألمعيا واحفظ ما تلوته عليك لئلّا تسأم وتملّ وتضيق من حياتك إن كانت مكونة من عنصر واحد وعلى وتيرة واحدة.