{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً}() هذا حالهم، يمشون على الأرض في تواضع وسكينة ووقار، يمشون على الأرض غير مستكبرين وغير متكبرين وغير متجبرين.
كن منحي لإخوانك المؤمنين, تنال حبهم, وحب الله قبل حبهم, لك لذة عند حضورك, ولك فاقة عند غيابك, ولك شوق عند مجيئك, أرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, إمامنا وقدوتنا وحبيبنا- كيف حبّه أصحابه, وحتى أعدائه, حتى نحن في شوق للقاءه, كان يشرب فيستبق القوم للشرب ليتذوقوا ما مست شفتاه, وكان يتوضأ فيتسابقوا للوضوء بما أبقاه، سبحان الله!! صاحب النسب الرفيع، والجاه الوسيع، ومع هذا كله إلا أنه قد نام على الحصير وابتسم في وجه من أوجعه، ووقف إلى جانب امرأة في الطريق تشكو إليه، وشرب مع أصحابه في إناء واحد، وكان آخرهم شرباً، كما أكل مع أهل الصفة، ثم دخل مكة في الفتح متواضعاً، ومشى في الأسواق والناس من حوله يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
تواضع واخفض جناحك, فخفض الجناح, ولين الكلمة, وترك الإغلاظ, من أسباب الألفة, واجتماع الكلمة, وانتظام الأمر, ولهذا قيل: من لانت كلمته وجبت محبته, وحسنت أحدوثته, وظمئت القلوب إلى لقائه, وتنافست في مودته, قال ابن عثيمين: وظيفة المسلم مع إخوانه، أن يكون هينا لينا بالقول وبالفعل؛ لأن هذا مما يوجب المودة والألفة بين الناس، وهذه الألفة والمودة أمر مطلوب للشرع، ولهذا نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن كل ما يوجب العداوة والبغضاء().
التواضع يجعلك ذا قامة رفيعة, وذا شرف عالي, وذا قيمة غالية, يقول الصديق -رضي الله عنه-: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع().
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... إلى طبقات الجو وهو وضيع
تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة ... فإن رفيع القوم من يتواضع.
التواضع من أدوية القلوب وعلاجها, وطبيبها للعلة التي تصيبها, فهاهو سائل يذهب يوماً إلى سفيان الثوري ليقول له: يا سفيان! لقد ابتليت بمرض في قلبي فصف لي دواءً، فقال سفيان: عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن على المعصية، وصفه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكف الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابتعد عن الحرص والطمع؛ تشف من مرضك -بإذن الله-().
فاقد التواضع إنما هو امرء استعبده الكبر الغائل، والعجب الغالب، فهو عنيد صلد، به يخبو قبسه ويكبو فرسه.. فاقد التواضع، عقله مفقود؛ لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش، أو هو كالميزان يرفع إلى الكفة ما يميل إلى الخفة.. فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، شقي لا يتعظ بغيره، غير مستحضرٍ أن موطأه قد وطئته قبله آلاف الأقدام وأن من بعده في الانتظار.
لا تتكبر مهما كنت غنيا فهناك من هو أغنى منك, ولا تتكبر بالجمال فهناك من هو أجمل منك, ولا تتكبر لقوتك فهناك من هو أقوى منك. إن من سُرَّ بأنفته فليعلم أن الجمل أشد كبراً منه، بل وأشد منه ذلكم الطاووس الذي يمشي مشي المرح المختال، يتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه، فأي فخرٍ وأي سرور فيما تكون فيه صورة البهائم متقدمة عليه، والعاقل إذا رأى من هو أكبر منه سناً تواضع له وقال: أكبر مني سنّاً، وإذا رأى من هو أصغر منه تواضع له وقال: أصغر مني سنّاً، وإذا رأى من هو مثله عده أخاً قريباً فلا يحقرن أحداً من المسلمين، فكم من عودٍ منبوذ ربما انتفع به فحك الرجل به أذنه.
فالزم التواضع حتى في بيتك, ومع أهلك, ومع الوالدين, ومع الأقارب, والزوجات, تعيش في بيتك سعيدا, فالبيت الذي يكسوه لباس التواضع يفوح برائحة السعادة والحياة المستقرة. انظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يساعد أهله حتى في عجن الدقيق, وخبز الخبز, -وهو رسول الله وقائد الأُمّة الإسلامية في المعارك- وأنت عليك بملاطفة أهلك وممازحتهم مزاحاً حقاً، ومعاشرتهم بالمعروف، حتى لا يصبح في البيت تعاملات رسمية مثل الشركة، فإن البيت يختلف. بعض الآباء يدخلون بوجه كالح عبوس مقطب إلى البيت، إذا دخل سكت المتكلم، واستيقظ النائم، وخاف الآمن, وهذا بيت لا يمكن أن يكون بيتاً سعيداً أبداً، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يداعب زوجاته ويلاعبهن، وكان يلاطفهن بالكلام المعسول.