العزلة هي: الاعتزال عن كل ما يؤدي إلى شغل القلب مما لا فائدة فيه, ومما يحصل له فيه من الإثم والوزر, ومما يحصل له فيه من الحزن واليأس والضيق.
إن العزلة الشرعية السنية هي: بعدك عن الشر وأهله، والفارغين واللاهين والفوضويين، فيجتمع عليك شملك، ويهدأ بالك، ويرتاح خاطرك، ويجود ذهنك بدرر الحكم، ويسرح طرفك في بستان المعارف. قال الشافعي:
فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها ... تبقى سعيدا إذا ما كنت منفردا().
ولقد جعلت للعزلة عنوانا لأنه ذا أهمية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولقد عقد ابن الجوزي ثلاثة فصول، ملخصها أنه قال: ما سمعت ولا رأيت كالعزلة، راحة وعزا وشرفا، وبعدا عن السوء وعن الشر، وصونا للجاه والوقت، وحفظا للعمر، وبعدا عن الحساد والثقلاء والشامتين، وتفكرا في الآخرة، واستعدادا للقاء الله -عز وجل-، واغتناما في الطاعة، وجولان الفكر فيما ينفع، وإخراج كنوز الحكم، والاستنباط من النصوص.
ونحو ذلك من كلامه ذكره في العزلة هذا معناه بتصرف().
وقال بعض الحكماء: ألم تر إلى ذي الوحدة ما أحلى ورعه وأرفع عيشه، وأقنع نفسه بالقصد، وآمنه للناس، وأبعده وإن بدا بالحرص مستعدا لصروف الأيام مستكينا؟ إن منع قلت همومه، وإن طرق قل أسفه، وإن أخذ لم تكثر الحقوق عليه، وإن أكدى لم يكبر الصبر عليه، وإن قنع لم يحصره الموت، وإن طلب لم تلذذه الكثرة، لا يشتكي ألم غيره، ولا يحاذر إلا على نفسه، وذو الكثرة غرض الأيام المقصود، وثأرها المطلوب، وصريع مصائبها وآفاتها، ما أدوم نصبه، وأقل راحته، وأخس من ماله نصيبه وحظه، وأشد من الأيام حذره، وأعيا الزمان بكلمه ونقصه، ثم هو بين السلطان يرعاه، وعدو يبغي عليه، وحقوق تستريبه، وأكفاء ينافسونه، وولد يودون موته، قد بعث عليه من سلطانه بالعنت، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن الحقوق الذم، لا يحدث البلغة، قنع فدام له السرور، ورفض الدنيا فسلم من الحسد، ورضي بالكفاف فتنكبته الحقوق().
وفي العزلة استثمار العقل، وقطف جنى الفكر، وراحة القلب، وسلامة العرض، وموفور الأجر، والنهي عن المنكر، واغتنام الأنفاس في الطاعة، وتذكر الرحيم، وهجر الملهيات والمشغلات، والفرار من الفتن، والبعد عن مداراة العدو، وشماتة الحاقد، ونظرات الحاسد، ومماطلة الثقيل، والاعتذار على المعاتب، ومطالبة الحقوق، ومداجاة المتكبر، والصبر على الأحمق.
وفي العزلة ستر للعورات: عورات اللسان، وعثرات الحركات، وفلتات الذهن، ورعونة النفس.
فالعزلة حجاب لوجه المحاسن، وصدف لدر الفضل، وأكمام لطلع المناقب، وما أحسن العزلة مع الكتاب، وفرة للعمر، وفسحة للأجل، وبحبوحة في الخلوة، وسفرا في طاعة، وسياحة في تأمل.
وفي العزلة تحرص على المعاني، وتحوز على اللطائف، وتتأمل في المقاصد، وتبني صرح الرأي، وتشيد هيكل العقل.
والروح في العزلة في جذل، والقلب في فرح أكبر، والخاطر في اصطياد الفوائد.
ولا ترائي في العزلة: لأنه لا يراك إلا الله، ولا تسمع بكلامك بشرا فلا يسمعك إلا السميع البصير.
كل اللامعين والنافعين، والعباقرة والجهابذة وأساطين الزمن، ورواد التاريخ، وشداة الفضائل، وعيون الدهر، وكواكب المحافل، كلهم سقوا غرس نبلهم من ماء العزلة حتى استوى على سوقه، فنبتت شجرة عظمتهم، فآتت أكلها كل حين بإذن ربها().
ما تطعمت لذة العيش حتى ...صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعــــــــــز من العلــم ... فـــــما أبتـــــــــــغي سواه أنيـــــــسا
إنما الذل في مخالطة الناس ... فدعهم وعش عزيزا رئيسا.
وقال آخر:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام لي الهنا ونما السرور
وقاطعت الأنام فما أبالي ... أسار الجيش أم ركب الأمير.
وقال آخر:
لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الإكثار من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لكسب العلم أو إصلاح حال.
إن العزلة عن كل ما يشغل عن الخير والطاعة دواء عزيز جربه أطباء القلوب فنجح أيما نجاح، وأنا أدلك عليه، في العزلة عن الشر واللغو وعن الدهماء تلقيح للفكر، وإقامة لناموس الخشية، واحتفال بمولد الإنابة والتذكر، وإنما كان الاجتماع المحمود والاختلاط الممدوح في الصلوات والجمع ومجالس العلم والتعاون على الخير، أما مجالس البطالة والعطالة فحذار حذار، اهرب بجلدك، ابك على خطيئتك، وأمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، الاختلاط الهمجي حرب شعواء على النفس، وتهديد خطير لدنيا الأمن والاستقرار في نفسك، لأنك تجالس أساطين الشائعات، وأبطال الأراجيف، وأساتذة التبشير بالفتن والكوارث والمحن، حتى تموت كل يوم سبع مرات قبل أن يصلك الموت{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً}().
فالعزلة حتى وإن أبعدتك عن الناس فإنها ما إن تقربك من الله –تعالى- فكن معتزل عن الفتن والشرور والملهيات, وكن من أهل ينابيع العلم، ومصابيح الهدى، وأحلاس البيوت، وسرج الليل، وجدد القلوب، وخلقان الثياب، تعرف في أهل السماء، وتخفى في أهل الأرض, ويا لها من نعمة أن تكون لديك الشهرة والسمعة الطيبة في أهل السماء, وتقلّ شهرتك وسمعتك في أهل الأرض؛ فإن الشهرة والسمعة في الأرض غالبا ما توصل صاحبها إلى طلب الرياء. نسال الله السلامة.
والذي أُود أن أُنبه عليه لعلك لن تفهم معنى العزلة التي قصدت بيانها هُنا فتقصّر في حق الله الواقع في اختلاطك بالناس فتكون قد أخطأت طريق العزلة المشروع فكن على حذر. فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه، فالأولى له الانكفاف من مخالطة الناس، بشرط أن يحافظ على الجماعة، والسلام والرد، وحقوق المسلمين من العيادة وشهود الجنازة، ونحو ذلك. والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة، لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات، ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء، فيقتصر منه على ما لابد له منه، فهو أروح للبدن والقلب.
والناس في مسألة العزلة والخلطة طرفان ووسط.
فالطرف الأول: من اعتزل الناس حتى عن الجمع والجماعات والأعياد ومجامع الخير، وهؤلاء أخطئوا.
والطرف الثاني: من خالط الناس حتى في مجالس اللهو واللغو والقيل والقال وتضييع الزمان، وهؤلاء أخطئوا.
والوسط: من خالط الناس في العبادات التي لا تقوم إلا باجتماع، وشاركهم في ما فيه تعاون على البر والتقوى وأجر ومثوبة، واعتزال مناسبات الصد والإعراض عن الله وفضول المباحات, وكثرة القيل والقال, وأماكن السبّ والشتم والغمز واللمز{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}().
ولك أن تنظر في كلام عمر: خذوا حظكم من العزلة. أي لا تجعلوها فوق ولا تحت بل وسط.
وقال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب من الناس فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة().
وقال مكحول: إن كان الفضل في الجماعة، فإن السلامة في العزلة().
إذاً: فرجائي الوحيد إقبالك على شانك والانزواء في غرفتك إلا من قول خير أو فعل خير، حينها تجد قلبك عاد إليك، فسلم وقتك من الضياع، وعمرك من الإهدار، ولسانك من الغيبة، وقلبك من القلق، وأذنك من الخنا ونفسك من سوء الظن، ومن جرب عرف، ومن أركب نفسه مطايا الأوهام، واسترسل مع العوام فقل عليه السلام()