كثيرا ما أسمع في بلادنا مثالا: خذ الحكمة من أفواه المجانين. يعني: لو كان مجنونا فأحيانا يصيب في كلامه فخذ منه الحق ولو كان مجنونا.
لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه، فإنه يهرب من مخافة الجهل كما يهرب من الأسد، والهارب من الأسد لا يأنف من دلالة من يدله على الخلاص، كائناً من كان. قال بعض السلف: الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها().
العبد لا يأنف من أخذ الحكمة حيثما وجدها، وإنّه يقبلها من كل من سمعها منه شريفا كان أو مشروفا عالما أو جاهلا برا أو فاجرا؛ ولا يستكبر عن أحد أن يتعلم منه كان فوقه أو دونه. فان طالب الحق إذا وجده فهو لا محالة يأخذه ولا يلتفت إلى خسة الآتي به ولا شرفه، ولو ترك ضالته ومطلوبه الذي كان ينشده لخسة من جاء بها كان أحمقا.
إن العلوم كأثمار على شجر ... فاجن الثمار وخلّ العود للنار.
أرأيت ما ذكره الله في كتابه من أقوال الأمم السابقة وممن بعدهم مع علمه ربنا بأنهم كفار وطواغيت وجبابرة وصناديد الشرك. وكل ما في كتاب الله هو كلامه –تعالى-, ونقل فيه كلام غيره ممن ذكرنا, ونحن حينما نريد نتلو آية تتحدث عن واحد ممن ذكرنا فإننا نقول: قال الله –تعالى-. ومن ذلك: ما ذكره عن فرعون, وأمر نبيه موسى بلين الكلام مع هذا الجبار المتمرد, مع أن فرعون قال كلمة حق وهو كاذب حين قال في قول الله –تعالى-: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ}() فصدقه موسى فيما قال ورد عليه بأنه منّان في إعطاء المعروف وأنه لا يسكت عن تعبيد بني إسرائيل متفضلا نعمة فرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}().
ومن ذلك ما حكاه الله –تعالى- عن ملكة سبأ حين قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}مع أنها كانت كافرة فصدّق الله قولها بقوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}().
وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بتجارب نافعة لا تضر من الروم وفارس, فهاهو يبيح لهم الغيلة: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيل -وهو وطء المرأة وهي ترضع- ثم رأيت أن فارس والروم يصنعون ذلك فلا يضرهم)) ().
وهاهو يأخذ بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق وهي خطة فارسية.
وهاهو يقول لأبي هريرة عن كلام الشيطان الذي علّم به ابن مسعود وأعطاه كلمة حق مع أنه شيطان: ((صدقك وهو كذوب)) ().
لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمتَه هوان الغائص.
فخذ الحق والحكمة ممن تجد وممن تعرف بعد أن تعرضها على الكتاب والسنة فإن الحق يقوله أحيانا من ليس بعالم, والحكمة من ليس بحكيم, والرمية من غير رامي. والعلم والحق ضالّة المؤمن من حيث أخذه نفعه، كيف لا يأخذه وهو قوت عقله, ولن يزري بالحق أن تسمعه من المشركين, ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين، ولا تضير الحسناء أطمارها ولا بنات الأصداف أصدافها. والبحر غدارٌ ومنه نخرج الحلي والآلئ.
وقد روي أن الحجاج خطب فقال: إنّ الله –تعالى- أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مؤونة الدنيا، فليته كفانا مؤونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا!. فقال الحسن: ضالة مؤمن عند فاسق فلنأخذها.
وخطب خازم بن خزيمة فقال: إنّ يوما أسكر الكبار، وشيب الصغار، ليوم عسير، شره مستطير. فقال سفيان الثوري: حكمة من جوف خرب، ثم أخرج ألواحا فكتبها().
والناس في هذا على ثلاث مراتب: قوم تعصبوا وقلدوا فلم يقبلوا إلا ممن قلدوه, فرموا كلام غيره على جدار الحائط, فهؤلاء أخطئوا.
والثاني: قوم لم يقلدوا ولم يتعصبوا وقبلوا الأخضر واليابس, وهؤلاء أيضا أخطئوا.
والثالث وهم الوسط: قوم نظروا في المقال لا في القائل, فأخذوا الحق وتركوا الباطل, والعاقل منهم ينظر بعين العدل لا بعين الرضا, ويزن الأمور بالقسطاس المستقيم.
فقس الأمور, واعرض الكلام الوارد لك في ميزان الكتاب والسنة فما وافقهما فخذه ولا تتراجع عنه.