كنت في بلاد قريبة من بلادنا, ذهبت هناك للتدريس في التعليم الابتدائي, فكان السكن الذي نستقرُّ فيه أنا وزميلي جوار المسجد, وكان هناك مكتبة تابعة للمسجد, فكنت انظر في الكتب وأُقلّب في الأوراق, فأذهب في الصباح ووالله ما أدري إلا والمؤذن يؤذن لصلاة الظهر, واذهب بعد صلاة العصر ولا أدري إلا والمؤذن يؤذن لصلاة المغرب, وكنت أُفضّل المطالعة في المكتبة على الخروج مع زميلي, وهكذا حياة قضيتها في سرور وراحة, ومن شدة فرحي بهذه المطالعة فكّرت بالتأليف, فألّفت كتابا بلغت صفحاته أربع مائة صفحة, واعتصرته من أكثر من مجلّد, -غير هذا-..
فالمطالعة في الكتاب تطرد الحزن واليأس والسأم والتفكير, وتختصر لك الوقت الطويل, والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك، والمستميح الذي لا يستريثك، والجار الذي لا يستبطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال عليك بالكذب.
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجو بنانك، وفخم ألفاظك، وبحبح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، وعرفت به شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغرم، ومن كد الطلب، ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقا، وأكرم منه عرقا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء، ومقارنة الأغنياء.
والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتل بنوم، ولا يعتريه كلل السهر، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يخفرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلته لم يدع طاعتك، وإن هبت ريح أعاديك لم ينقلب عليك.
ومتى كنت معه متعلقا بسبب أو معتصما بأدنى حبل كان لك فيه غنى من غيره، ولم تضرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك, مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صغار الناس، وحضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الرديئة، وجهالاتهم المذمومة. لكان في ذلك السلامة ثم الغنيمة، وإحراز الأصل مع استفادة الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المنى، وعن اعتياد الراحة وعن اللعب، وكل ما أشبه اللعب، لقد كان على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المنة.
وقد علمنا أن أفضل ما يقطع به الفراغ نهارهم، وأصحاب الفكاهات ساعات ليلهم: الكتاب، وهو الشيء الذي لا يرى لهم فيه مع النيل أثر في ازدياد تجربة ولا عقل ولا مروءة، ولا في صون عرض، ولا في إصلاح دين، ولا في تثمير مال، ولا في رب صنيعة ولا في ابتداء إنعام().
والناظر فيه بمنزلة جليس كامل وأنيس فاضل، وصاحب أمين عاقل، والكتاب حاضر نفعه، مأمون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينفض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شرا، ولا يفشي عليك سرا، ولا ينم عليك، ولا يسعى بنميمة إليك.
نعم الصاحب والجليس كتاب ... تهلو به إن خانك الأصحاب
لا مفشيا عند القطيعة سره ... وتنال منه حكمة وصواب..
لنا جلساء ما نمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم طرف حكمة ... ولا نتقي منهم لسانا ولا يدا..
قال الحافظ ابن عبد الهادي حاكيا عن شيخه ابن تيمية: لا تكاد نفسُه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تملُّ من الاشتغال، ولا تكلُّ من البحث، وقَلَّ أن يدخل في علمٍ من العلوم في بابٍ من أبوابه إلا ويُفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حُذَّاق أهله().
وقال ابن تيمية لتلميذه: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مُطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض. فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، أليست النفس إذا فرحت وسُرَّت وقَوِيت الطبيعةُ فدفعت المرضَ؟. فقال: بلى. فقلت له: فإن نفسي تُسرُّ بالعلم فتقوى به الطبيعةُ فأجدُ راحةً، فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا().
قال ابن الجوزي: ليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه، وتحادث سطور كتبك، وتجري في حلبات فكرك.
وقد قيل لابن المبارك: ما لك لا تجالسنا؟. فقال: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين. وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه.
وقال أيضا: وإني أُخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره، فكأني وقعتُ على كنز().
وقال ابن الجهم: إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم, -وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة- تناولتُ كتاباً من كتب الحِكم، فأجدُ اهتزازي للفوائد، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة، وعزُّ التبين أشدُّ إيقاظاً من نهيقِ الحميرِ، وهدَّةِ الهَدْمِ.
وقال أيضا: إذا استحسنتُ الكتاب واستجدتُه، ورجوتُ منه الفائدة، ورأيتُ ذلك فيه، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظرُ كم بقي من ورقة مخافة استنفاده، وانقطاع المادة من قلبه، وإن كان المصحفُ عظيم الحجمِ كثير الورقِ كثير العددِ فقد تمَّ عيشي وكمل سروري().
أرى العلماء أطولنا حياة ... وإن أضحوا رفاتا في القبور
أناس غيبوا وهم شهود ... بما ابتدعوه من علم خطير
كأنهم حضور حين تجري ... محاسن ذكرهم عند الحضور
لئن ملئت قبورهم ظلاما ... فإن ضياءهم ملء الصدور.
.........................................
إن صحبنا الملوك تاهوا علينا ... واستخفوا كبرا بحق الجليس
أو صحبنا التجار صرنا إلى البؤس ... وعدنا إلى عداد الفلوس
فلزمنا البيوت نستخرج العلم ... ونملأ به بطون الطروس.
.........................................
لما رأيت بأني لست معجزهم ... فوتا ولا هربا فريت أحتجب
فصرت في البيت مستورا تحدثني ... عن علم ما غاب عني في الورى الكتب
فردا تخبرني الموتى وتنطق لي ... فليس لي في أناس غيرهم إرب
لله من جلساء لا جليسهم ... ولا خليطهم للسوء مرتقب
لا بادرات الأذى يخشى رفيقهم ... ولا يلاقيه منهم منطق ذرب
أبقوا لنا حكما تبقى منافعها ... آخر الليالي على الأيام وانشعبوا.
................................................
نعم المحدث والجليس كتاب ... تخلو به إن ملك الأصحاب
لا مفشيا سرا ولا متكبرا ... وتفاد منه حكمة وصواب