هل تعلم أن الدعاء هو من العبادات التي لم يأمر بها الشرع أن تُؤدى جماعة؛ والسبب في ذلك: لأن الله يريد أن يراك لوحدك وأنت تناديه, ويحب أن يسمعك لوحدك وأنت تقرع بابه, ولا يريدُ أن يراك الناس وأنت متذلل تسأل الله حاجتك, ويحب منك الانكسار والخضوع والتذلل والإلحاح والمسكنة. فشرع لك من الأوقات التي لا يراك فيها الناس: جوف الليل.
ما أجمل هذا الحديث الشريف وهو يعطيك حقيقة المسافة بينك وبين خالقك -جل جلاله-: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) ().
إن ذاك الثلث غال من حياتنا، نفيس في أوقاتنا، يوم ينزل رب العزة –جل جلاله- إلى سماء الدنيا, يدعو عبادة إلى ساحات رحمته, وميادين جوده وفضله, مبيناً لهم واسع عطاءه, وعظيم كرمه: ((هل من سائل يعطى؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟))().
ذكر التنوخي: أن أحد الوزراء في بغداد -وقد سماه- اعتدى على أموال امرأة عجوز هناك، فسلبها حقوقها وصادر أملاكها، ذهبت إليه تبكي وتشتكي من ظلمه وجوزه، فما ارتدع وما تاب وما أناب، قالت: لأدعون الله عليك، فأخذ يضحك منها باستهزاء، وقال: عليك بالثلث الأخير من الليل. وهذا لجبروته وفسقه يقول باستهزاء، فذهبت وداومت على الثلث الأخير، فما هو إلا وقت قصير إذ عزل هذا الوزير وسلبت أمواله، وأخذ عقاره، ثم أقيم في السوق يجلد تعزيرا له على أفعاله بالناس، فمرت به العجوز، فقالت له: أحسنت! لقد وصفت لي الثلث الأخير من الليل، فوجدته أحسن ما يكون ().
إني أنصحك نصيحة أخ محب مشفق: إذا ألمت بك حاجة, من همّ وكرب, أو جوع وفقر, أو قهر وظلم, أو معصية وذنب, فانتظر جوف الليل, فإذا هدأت الجفون، ونامت العيون, وأرخى الليل سدوله، واختلط ظلامه، وغارت نجومه، وشاع سكونه, فاعرض المسألة على الله, فكم إلى الله من دعوات في هذا الوقت الثمين, فما ينفلق الفجر إلا وجبر الله كسيرا، وأغنى فقيرا، وشفا مريضا، وغفر ذنبا, وفرج كربة، وكشف ضرا، ونصر مظلوما، وهدى حيرانا، وأمّن خائفا، وأجار مستجيرا، ومد العون لضعيف، وأغاث ملهوفا، وأعان عاجزا، وانتقم لمظلوم.