الهمة طريق النجاح.
علمتني النملة -في ظل العقيدة- أن لا أقف حائرا أمام مصاعب الحياة, بل ولابد من تقمص لباس العز، وتفرع ذروة المعالي, وتسنم ذروة الشرف, وأن أكون صاحب همة بعيدة المرمى، ونفسا رفيعة المصعد، وأن أناطح نجوم الثريا, وأبلغ قمم الجبال, أسعى بنفسي إلى المآثر, وأسمو بها إلى المناقب, وأن لا أقف مكتوف اليدي, ضعيف الإرادة, عاجز الرأي, متخاذل العزم, خامل الحس..
إذا ما كنت في أمر مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم.
أرأيت النمل مع صغر حجمه, إلا أنه يسحب الشيء العظيم بأسلوب شيق, وهمة عالية, والواقع يشهد بذلك.
لا تقف عند سفاسف الأمور, بل بادر إلى المعالي, ألّف كتابا وسابق العلماء, أكرم الناس ونافس الكرماء, صلِّ الليل لتزاحم الأبرار, وصم النهار لتفتح باب الريان, بادر وسارع وأقبل, شبرا بذراع, وذراع بباع, وباع بهرولة.
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا.
إياك وضعف النفس عن طلب المراتب العالية, وقصور الأمل عن بلوغ الغايات, وإيثار الدعة, والرضا بالدون, والقعود عن معالي الأمور, فاشحذ همتك ولا تكسل, فان العزيمة تأتي على قدر همم الرجال.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم.
الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: ((والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه...)) () فصاح فيهم إني لكم نذير مبين, إني رسول أمين, أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب, لا يمكن لنبي أن تضعف همته, ولا يمكن لنبي أن يرجع إذا لبس لامته, قام من الليل حتى تفطرت قدماه, وصبر على الجوع حتى تقطعت أمعاءه, كٌسرت ثنيته ولم يتوالى, شُج رأسه ولم يتوانى, وجاهد في الله حق الجهاد, وقاتل أهل الكفر والعناد, حتى ذلت له الرقاب, وكشف عن أهل النقاب, وأتم الله له الدين بفضل همته العلياء, وشجاعته المثلى, وإصراره على مناطحة الثريا..
وصبر معه أصحابه أَجلَّ الصبر، وجاهدوا أحسن الجهاد، فوقفوا مواقف تشيب لها الرءوس، فضحوا بأموالهم وأنفسهم، وقدموا الغالي والرخيص في سبيل الله، ولقوا الألاقي في مرضاته، فنكل بهم من أعدائهم، فمنهم من قتل، ومنهم جرح، ومنهم من قطعت أعضاؤه ومزقت أطرافه، وأكلوا من الجوع ورق الشجر، وسحب بعضهم على الرمضاء وحبس البعض، هذا وهم صامدون مجاهدون مناضلون مكافحون، يستعذبون من أجل دينهم العذاب، ويستسهلون الصعاب، ويتجرعون الغُصف.
كانت همتهم شاحذة, ونيتهم واضحة, لا يطلبون الدنيا على حساب الآخرة, العلياء بغيتهم, والآخرة همهم, يسعون لرضاء ربهم, فرضوا عنه ورضي عنهم.
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضابُ
إذا صحَّ منك الود فالكل هيِّنٌ ... وكل الذي فوق التراب ترابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ... وبيني وبين العالمين خرابُ.
قال بعض الباحثين: الهمة سلاح القلب للمعالي, وعون الجسد إلى ركوب الأهوال, والحادي نحو لذائذ الآمال.. وقد هتف بك ابن القيم -رحمه الله تعالى- قائلا: الهمة كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم, ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم, فان الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها وكلما نزلت قصرتها الآفات من كل مكان, فإن الآفات قواطع وجواذب.. فعلو همة المرء عنوان فلاحه, وسفول همته عنوان حرمانه... فلا تصغرن همتك, فقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: لا تصغرن همتكم, فاني لم أرَ اقعد عن المكرمات من صغر الهمم.
وقال الإمام مالك -رحمه الله-: عليك بمعالي الأمور وكرائمها, واتق رذائلها وما سف منها, فإن الله –تعالى- يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها..
وقال الإمام علي -رضي الله عنه-:
إذا أظمأتك أكف الرجال ... كفتك القناعة شبعا وريا
فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا().
إذا طلبت كمال العيش, وطيب الحياة, فاعلم أن علو الهمة، وصدق الإرادة، وحسن الطلب: من كمال الحياة، فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها، فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلبا، وحياة البهائم خير من حياته.
قلت للصقر وهو في الجو عال ... اهبط الأرض فالهواء جديب
قال لي الصقر: في جناحي وعزمي ... وعنان السماء مرعى خصيب.
واعلم أن الوصول إلى القمة, يحتاج إلى همة, والهمة بحاجة إلى توكل على الله وإمضاء في الطريق؛ لأن الطريق محفوف بالمخاوف, ومنوط على المهالك, فيه عقبات, وأشواك وعقارب وحيات, وأعداء اليمين والشمال, وحسدة المعالي والكمال, لكن اعبر هذا الطريق متوكلا على الله فهو خير حافظا وخير وكيل.
ينقلك ابن القيم إلى الصبر في طريق طلب الحياة الطيبة فيقول: وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم, وإن من آثر الراحة فاتته الراحة, وإن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة, فلا فرحة لمن لا هم له, ولا لذة لمن لا صبر له, ولا نعيم لمن لا شقاء له, ولا راحة لمن لا تعب له, بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا, وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد, وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة, والله المستعان ولا قوة إلا بالله.. وكلما كانت النفوس أشرف, والهمة أعلا, كان تعب البدن أوفر, وحظه من الراحة أقل, كما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام().