أمّا حقيقة القرآن يقول لك صاحب البرهان: تظاهرت حقيقته ومجازه, وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه, وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه, قد أحكم الحكيم صيغته ومعناه وقسم لفظه ومعناه, إلى ما ينشّط السامع ويقرط المسامع, من تجنيس أنيس, وتطبيق لبيق, وتشبيه نبيه, وتقسيم وسيم, وتفصيل أصيل, وتبليغ بليغ, وتصدير بالحسن جدير, وترديد ماله مزيد, إلى غير ذلك مما أجرى الصياغة البديعة والصناعة الرفيعة، فالآذان بأقراطه حالية والأذهان من أسماطه غير خالية, فهو من تناسب ألفاظه وتناسق أغراضه, قلادة ذات اتساق، ومن تبسّم زهره وتنسّم نشره، حديقة مبهجة للنفوس والأسماع والأحداق، كل كلمة منه لها من نفسها طرب، ومن ذاتها عجب، ومن طلعتها غرة، ومن بهجتها درة، لاحت عليه بهجة القدرة، ونزل ممن له الأمر، فله على كل كلام سلطان وإمرة، بهر تمكن فواصله، وحسن ارتباط أواخره وأوائله, وبديع إشاراته وعجيب انتقالاته, من قصص باهرة إلى مواعظ زاجرة, وأمثال سائرة وحكم زاهرة, وأدلة على التوحيد ظاهرة وأمثال بالتنزيه والتحميد سائرة, ومواقع تعجب واعتبار ومواطن تنزيل واستغفار, إن كان سياق الكلام ترجية بسّط, وإن كان تخويفا قبّض, وإن كان وعدا أبهج, وإن كان وعيدا أزعج, وإن كان دعوة حدب, وإن كان زجرة أرعب, وإن كان موعظة أقلق, وإن كان ترغيبا شوق().
ويقول الإمام ابن القيم في المدارج: هو النزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، لا تفنى عجائبه، ولا تقلع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالاته، كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا، زادها هداية وتبصيرا، وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا، فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها، وحياة القلوب، ولذة النفوس، ورياض القلوب، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح().
إنه القرآن!, بأسلوبه البديع، ووصفه الغريب، ونظمه العجيب, ونبعه الأصيل, وشرفه الرفيع, فأعْيت بلاغته البلغاء, وأعجزت حكمته الحكماء, وأبكمت فصاحته الخطباء, فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب, وصرفه بأبدع معنى وأغرب أسلوب، وكم فيه من آية خفيت على أولي الأفهام.
هــــذا وكـــم فيه من مـــــــــزايا ... وفـــي زوايـــــــاه من خبــــــــــــايا
ويطمع الحبر في التقاضي ... فيكشف الخبر عن قضايا.
والقرآن لا يخفي أسراره, بل يعطي البشر كل صور الحقيقة على صورتها الحقيقية, وإليك ما يدل على ذلك: كان هناك بحارا بحري كان يجول البحار, ويشاهد أحوالها ومظاهرها ليلا ونهارا, وما تتعرض له عن عواصف, وسحب وأمواج متلاطمة, ورياح عاتية, وظلمات وغير ذلك مما كابده خلال سنين عمله في البحار والمحيطات، فإنه لما قرأ قوله –تعالى-: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}() قال في نفسه: إن أحدا لا يستطيع أن يصف هذا الوصف الدقيق لأحوال البحار وظواهرها الجوية, إلا من كان بحارا, شق عباب الماء, وعاين تقلبات الأحوال فيه، وأن محمدا الذي نزل عليه هذا الكلام, لم يكن في يوم من أيامه بحارا, كما أنه لم يركب البحر في حياته, وعاش في وسط الصحراء البعيدة كل البعد عن عالم البحار, فمن أين له هذه المعلومات الدقيقة التي لا يعرفها سوى الملاحون؟ إنه ولا شك كلام عليم خبير وهو الله –سبحانه-, فآمن وأسلم بأن محمدا رسول الله حقا وصدقا().
أما تأثير القرآن فلا تكاد نفس تسمع الآيات تُتلى, إلا وذرفت العيون, وفاضت الدموع, واستراح القلب بكلام علام الغيوب. إن للقرآن سلطانا على القلوب، وهيبة على الأرواح، وقوة مؤثرة فاعلة على النفوس. يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير.
فالقرآن له سلطان الجلال والمهابة يستولى على قلوب المخاطبين استيلاءً, كالقهر وما هو بالقهر، له فعل في القلوب كالسحر وما هو بالسحر، لا يختص ذلك بالأنصار دون الخصوم، ولا بمحالفيه دون مخالفيه، بل يغزو القلب من حيث لا يمكن لصاحبه رد، ويؤثر فيه من حيث لا يمكن دفع، أثر في الأعداء كما أثر في الأتباع.
هذا قائل الكفرة وشهادته على قوة تأثير القرآن يقول متعجبا: فوالله ما منكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه، ولا بقصيده ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا. والله: إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه().
القرآن يحطم بتأثيره عناد الكفر والشرك, ويدفع المستمعين إلى الفعل الغير إرادي, وينكسهم على جباههم ساجدين, حين أنزلت: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}() خر المشركون سجدا راغمين عن أنوفهم ().
إنه التأثير الذي يلمس الوجدان، ويحرك المشاعر، ويفيض الدموع, يسمعه الذين تهيأوا للإيمان، فيسارعون إليه خاشعين، ويسمعه المعرضون فلا يملكون قوة إلا أن يقفوا أمام عجائبه حائرين متعجبين{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}().
إنه التأثير للقلوب, فكم من أٌناس سمعوا الرسول يتلو الآيات فأقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا بعضا من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا.
هذا النجاشي, استقرأ جعفرًا -رضي الله عنه- القرآن، فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص) .. فبكى النجاشي، حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة..
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-, يقول في قصة إسلامه: فلما سمعت القرآن رقَّ له قلبي فبكيت، ودخلني الإسلام..
وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه-, وقد حشا في أذنيه كُرسُّفا، لئلا يسمع القرآن, قال: فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ قال: فعرض علىَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا علىَّ القرآن، فوالله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه .. فأسلمت()..
انظر إلى حال الجن واستماعهم للقرآن لأول وهلة, يسمعون القرآن فتندهش عقولهم, وتتأثر قلوبهم, وتفيض عيونهم, تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن، فقد استمعوه صامتين منتبهين حتى النهاية, فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به, وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب، يدفعه دفعا إلى الحركة والاحتفاء بشأنه وإبلاغه للآخرين بجد واهتمام.
فما أجمل الحديث عن القرآن, لا تشبع اللسان من التحدث بأياته, ولا يشبع القلب من التلذذ به والإنصات إليه, قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: لو طهرتْ قلوبنا لما شبعَتْ من كلام الله().