تعالَ معي –أخي- لجولة أرجو ألا يستطيلها مَلُول، وألا يستكثرها مشغول، نرتاد فيها هذا الكون بسماواته وأرضه وأحيائه، متأملين متدبِّرين{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}().
ارفع بصر فكرك إلى عجائب السموات، فتلمح الشمس في كل يوم في منزل، فإذا انخفضت برد الهواء وجاء الشتاء، وإذا ارتفعت قوي الحر، وإذا كانت بين المنزلتين اعتدل الزمان.
ثم اخفض بصرك إلى الأرض، ترى فجاجها مذللة للتسخير{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}()وتفكر في شربها بعد جدبها بكأس القطر.
وتلمح خروج النبات يرفل في ألوان الحلل على اختلاف الصور والطعوم والأراييح.
وانظر كيف نزل القطر إلى عرق الشجر، ثم عاد ينجذب إلى فروعها، ويجري في تجاويفها بعروق لا تفتقر إلى كلفة.
فلا حظ للغافل في ذلك إلا سماع الرعد بأذنه، ورؤية النبات والمطر بعينيه. كلا! لو فتح بصر البصيرة لقرأ على كل قطرة خطا بالقلم الإلهي: أنها رزق فلان في وقت كذا!!
ثم انظر إلى المعادن لحاجات الفقير إلى المصالح، فمنها مودع كالرصاص والحديد، ومنها مصنوع بسبب غيره كالأرض السبخة، يجمع فيها ماء المطر فيصير ملحا.
وانظر إلى انقسام الحيوانات ما بين طائر وماش وإلهامها ما يصلحها.
وانظر إلى بُعد ما بين السماء والأرض، كيف ملأ ذلك الفراغ هواء، لتستنشق منه الأرواح، وتسبح الطير في تياره إذا طارت.
كم في كتابِ الكونِ من عِبرٍ ... لأولي النُّهى والبحْثِ والنَّظرِ
في الأرضِ في الآفاقِ قاطبةً ... في النفسِ في الأصواتِ في الصُّورِ
في ذرةٍ عَمْياءَ هائجةٍ ... في الشمسِ ذاتِ الوهْجِ والشَّررِ
في النَّجْمِ في الأفلاكِ سابحةً ... في الشُّهْبِ ذاتِ الخَطْفِ للبصَرِ
في الزهرةِ الأخاذِ رونقُها ... في الطيرِ صدّاحًا على الشَّجَرِ
في البحرِ والأمواجُ صاخبةٌ ... تعلو تَرومُ تَنَاولَ القمَرِ
في الراسِياتِ الشمِّ عمَّمَها ... ثلجُ الشتاءَ يسيلُ في النَّهرِ
في السَّفْحِ والأعشابُ مائسةٌ ... ترنو إلى الوديانِ في خَفَرِ
ماذا أقولُ لغافلٍ لاهٍ ... عن كلِّ ما في الكونِ من عِبَرِ
أيظنُّ خلقَ الكونِ عن عَبَثٍ ... كلَّا فخلقُ الكونِ عن قَدَرِ
ما فيهِ من وَهَنٍ ولا خَللٍ ... ما فيه من واهٍ ومُنفطِرِ
الشمسُ في الأفلاكِ جاريةٌ ... كالأرضِ ذات الماءِ والمَدَرِ
لا الليلُ يسبقُ لا النهارُ ولا ... تُفني البحارُ رواسِيَ الجُزُرِ
النبتَةُ الخَضْراءُ ضاربةٌ ... أطْنَابَها في الصَّخْرِ والحَجَرِ
والزهرةُ البيضاءُ فائحةٌ ... والجذْرُ بين الطينِ والكَدَرِ
والغيمةُ السوداءُ مُثْقَلَةٌ ... تجْرِي بأطنابٍ من المطرِ
والهرةُ السَّمراءُ حانيةٌ ... فوق الصِّغارِ العُمْي عن خَطَرِ
الكونُ متَّسِقٌ ومنتظِمٌ ... كم فيهِ من ذِكْرَى لمُعتَبرِ
سبحانَ من باللُّطْفِ قدَّرَهُ ... أعظِمْ بقيومٍ ومُقتَدِرِ.
السماء بغير عمدٍ ترونها، من رفعها؟! بالكواكب من زيَّنها؟! الجبال: من نصبها؟! الأرض: من سطحها وذلَّلها وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}()؟! الطبيب: من أرداه وقد كان يرجى -بإذن ربه- شفاه؟! المريض وقد يُئِس منه: من عافاه؟! الصحيح: من بالمنايا رماه؟! البصير: في الحفرة من أهواه؟! والأعمى في الزِّحام: من يقود خُطَاه؟! الجنين في ظلماتٍ ثلاثٍ: من يرعاه؟! الوليد: من أبكاه؟! الثعبان: من أحياه والسُّم يملأ فاه؟! الشَّهد: من حلاَّه؟! اللبن: من بين فرث ودم من صفَّاه؟! الهواء تحسُّه الأيدي ولا تراه الأعين: من أخفاه؟! النَّبت في الصحراء: من أرْبَاه؟! البدر: من أتمَّه وأسراه؟! النخل: من شقَّ نواه؟! الجبل: من أرساه؟! الصخر: من فجَّر منه المياه؟! النهر: من أجراه؟! البحر: من أطغاه؟! الليل: من حاك دُجَاه؟! الصُّبح: من أسفره وصاغ ضحاه؟! النوم: من جعله وفاة، واليقظة منه بعثاً وحياة؟! العقل: من منحه وأعطاه؟! النحل: من هداه؟! الطير في جو السماء: من أمسكه ورعاه؟! في أوكاره من غذَّاه ونمَّاه؟!().
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداكا
ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا حاولْتَ تفسيراً لها أعياكا
قل للطبيب تخطَّفته يد الردى من يا طبيب بطبِّه أرْدَاكا؟!
قل للمريض نجا وعُوفيَ بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا؟!
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا؟!
قل للبصير وكان يحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواكا؟!
بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاكا؟!
قل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا؟!
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا؟!
وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكا؟!
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السمُّ يملأ فَاكا؟!
واسأل بطون النَّحل كيف تقا طرت شهداً وقل للشهد من حلاَّكا؟!
بل سائل اللبن المُصَفَّى كان بين دم وفرث ما الذي صفَّاكا؟!
وإذا رأيت الحي يخرج من حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياكا؟!
قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى عن عيون الناس من أخفاكا؟!
قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ ورعاية من بالجفاف رَمَاكا؟!
وإذا رأيت النَّبت في الصحراء يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكا؟!
وإذا رأيت البدر يسري ناشرا أنواره فاسأله من أسْرَاكا؟!
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبعد كل شيء ما الذي أدناكا؟!.