يعجبني أناس حين أسألهم عن الأمس ماذا فعلتم؟ وأين كنتم؟ فيجيبوني بابتسامة: لا ندري ماذا أكلنا على غداء اليوم وأنت تسأل على أمس الماضي.
السعداء مشغولون في ساعتهم الحاضرة لا يحزنهم سواد الماضي، ولا يقلبون صفحاته، ولا يبعثرون قبره، ولا يشرحون جثته، وﻻ ﻳﻨﻈﺮﻭﻥ ﺇﻟﻰ اﻟﻮﺭاء, ﻭﻻ ﻳﻠﺘﻔﺘﻮﻥ ﺇﻟﻰ اﻟﺨﻠﻒ؛ ﻷﻥ اﻟﺮﻳاح ﺗﺘﺠﻪ ﺇﻟﻰ اﻷﻣﺎﻡ، ﻭاﻟﻤﺎء ﻳﻨﺤﺪﺭ ﺇﻟﻰ اﻷﻣﺎﻡ، ﻭاﻟﻘﺎﻓﻠﺔ ﺗﺴﻴﺮ ﺇﻟﻰ اﻷﻣﺎﻡ، ﻓﻼ ﺗﺨﺎﻟﻒ ﺳﻨﺔ الله في اﻟﺤﻴﺎﺓ, فلن تجد لسنة الله تبديلا.
لا يخافون المستقبل، لا يهابون شبحه، ولا يفزعهم أحلامه، فهم مواليد اليوم أموات غدا.
ﻣﺎ ﻣﻀﻰ ﻓﺎﺕ ﻭاﻟﻤﺆﻣﻞ ﻏﻴﺐ ... ﻭﻟﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺃﻧﺖ ﻓﻴﻬﺎ.
فكل ﻣﺎ ﻣﻀﻰ ﻓﺎﺕ، ﻭﻣﺎ ﺫﻫﺐ ﻣﺎﺕ، ﻓﻼ ﺗﻔﻜﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻣﻀﻰ، ﻓﻘﺪ ﺫﻫﺐ ﻭاﻧﻘﻀﻰ، وراح وانتهى، ونُسي وامتحى، وأُغلق وانطوى، ولئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بما مضى، لا يأتون به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا..
عجبا أمر بعضنا!! يشتدُّ غضبه حين يرى فلانا ينفق أمواله في أمر لا فائدة فيه، ويضحك حين يرى فلانا يرتعد من أحلام النوم!! وهذا عجيب!! والتبذير الحقيقي هو الذي ينفق أوقاته في قراءة الماضي، ويسرف بالبكاء على الفائت، والمضحك هو الذي يرتعد من أحلام اليقظة في المستقبل الغيبي، خائفا مما يتوقع حصوله في زمن بعيد{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}().
إن ﺗﺬﻛﺮ اﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭاﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﻣﻌﻪ ﻭاﺳﺘﺤﻀﺎﺭﻩ، ﻭاﻟﺤﺰﻥ ﻟﻤﺂﺳﻴﻪ ﺣﻤﻖ ﻭﺟﻨﻮﻥ، ﻭﻗﺘﻞ ﻟﻹﺭاﺩﺓ، ﻭﺗﺒﺪﻳﺪ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ اﻟﺤﺎﺿﺮﺓ، وإسراف وتبذير للوقت، وإهمال للواجبات.
ﻣﻠﻒ اﻟﻤﺎﺿﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﻌﻘﻼء ﻳﻄﻮﻯ ﻭﻻ ﻳﺮﻭﻯ، ﻳُﻐﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﺑﺪا ﻓﻲ ﺯﻧﺰاﻧﺔ اﻟﻨﺴﻴﺎﻥ، ﻳُﻘﻴﺪ ﺑﺤﺒﺎﻝ ﻗﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﺳﺠﻦ الإﻫﻤﺎﻝ ﻓﻼ ﻳﺨﺮﺝ ﺃﺑﺪا، ﻭﻳﻮﺻّﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻼ ﻳﺮﻯ اﻟﻨﻮﺭ؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻀﻰ ﻭاﻧﺘﻬﻰ، ﻻ اﻟﺤﺰﻥ ﻳﻌﻴﺪﻩ، ﻭﻻ اﻟﻬﻢّ ﻳﺼﻠﺤﻪ، ﻭﻻ اﻟﻐﻢّ ﻳﺼﺤﺤﻪ، وﻻ اﻟﻜﺪﺭ ﻳﺤﻴﻴﻪ، ﻷﻧﻪ ﻋﺪﻡ، فلا ﺗﻌﺶ ﻓﻲ ﻛﺎﺑﻮﺱ اﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺗﺤﺖ ﻣﻈﻠﺔ اﻟﻔﺎﺋﺖ، اﻧﻘﺬ ﻧﻔﺴﻚ ﻣﻦ ﺷﺒﺢ اﻟﻤﺎﺿﻲ، ﺃﺗﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﺮﺩ اﻟﻨﻬﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺼﺒﻪ، ﻭاﻟﺸﻤﺲ ﺇﻟﻰ ﻣﻄﻠﻌﻬﺎ، ﻭاﻟﻄﻔﻞ ﺇﻟﻰ ﺑﻄﻦ ﺃﻣﻪ، ﻭاﻟﻠﺒﻦ ﺇﻟﻰ اﻟﺜﺪﻱ، ﻭاﻟﺪﻣﻌﺔ ﺇﻟﻰ اﻟﻌﻴﻦ، ﺇﻥّ ﺗﻔﺎﻋﻠﻚ ﻣﻊ اﻟﻤﺎﺿﻲ، ﻭﻗﻠﻘﻚ ﻣﻨﻪ ﻭاﺣﺘﺮاﻗﻚ ﺑﻨﺎﺭﻩ، ﻭاﻧﻄﺮاﺣﻚ ﻋﻠﻰ ﺃﻋﺘﺎﺑﻪ ﻭﺿﻊٌ ﻣﺄﺳﺎﻭﻱ ﺭﻫﻴﺐ ﻣﺨﻴﻒ ﻣﻔﺰﻉ، فكم رأيتَ ممن أصيب بحالة نفسية، وجلطة دماغية، وذبحة عقلية؛ إلا وهم أصحاب القراءة في مجلدات ماضيهم المرعب، وأصحاب الذكريات في عالم ماضيهم المحزن، وأصحاب البعثرة لقبور ماضيهم الرميم، وأصحاب التشريح لماضيهم المنتن، لمّا ﺫﻛﺮ اﻟﻠﻪ اﻷﻣﻢ الماضية ﻭﻣﺎ ﻓﻌﻠﺖ ﻗﺎﻝ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}()اﻧﺘﻬﻰ اﻷﻣﺮ ﻭﻗﻀﻲ، ﻭﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻦ ﺗﺸﺮﻳﺢ ﺟﺜﺔ اﻟﺰﻣﺎﻥ، ﻭﺇﻋﺎﺩﺓ ﻋﺠﻠﺔ اﻟﺘﺎﺭﻳﺦ.
ﻳﻘﻮﻝ ﺃﺣﺪ اﻟﺴﻠﻒ: ﻳﺎ اﺑﻦ ﺁﺩﻡ، ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺖ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻳﺎﻡ: ﺃﻣْﺴُﻚ ﻭﻗﺪ ﻭﻟﻰ، ﻭﻏﺪﻙ ﻭﻟﻢ ﻳﺄﺕ، ﻭﻳﻮﻣﻚ ﻓﺎﺗﻖ اﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ.
واﻟﺬﻱ ﻳﻌﻮﺩ ﻟﻠﻤﺎﺿﻲ، ﻛﺎﻟﺬﻱ ﻳﻄﺤﻦ اﻟﻄﺤﻴﻦ ﻭﻫﻮ ﻣﻄﺤﻮﻥ ﺃﺻﻼ، ﻭﻛﺎﻟﺬﻱ ﻳﻨﺸﺮ ﻧﺸﺎﺭﺓ اﻟﺨﺸﺐ. ﻭﻗﺪﻳﻤﺎ ﻗﺎﻟﻮا ﻟﻤﻦ ﻳﺒﻜﻲ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺎﺿﻲ: ﻻ ﺗﺨﺮﺝ اﻷﻣﻮاﺕ ﻣﻦ ﻗﺒﻮﺭﻫﻢ().
والآن نقول لك: لا تبكي على من مات، ابكِ على من ذهب عقله؛ لأن الذي ذهب عقله يعيش ساعته الحاضرة، أما الذي مات فقد مضى إلى رحمة خالقه.
ﺇﻥ اﻻﺷﺘﻐﺎﻝ ﺑﺎﻟﻤﺎﺿﻲ، ﻭﺗﺬﻛﺮ اﻟﻤﺎﺿﻲ، ﻭاﺟﺘﺮاﺭ اﻟﻤﺼﺎﺋﺐ اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﻭﻣﻀﺖ، ﻭاﻟﻜﻮاﺭﺙ اﻟﺘﻲ اﻧﺘﻬﺖ، ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺿﺮﺏ ﻣﻦ اﻟﺤﻤﻖ ﻭاﻟﺠﻨﻮﻥ.
إن نصيحتي لك: إن تذكرت الماضي فاذكر المشرق منه لتفرح وتسعد، وإن تذكرت المستقبل فتفاءل في ذكر الأشياء الجميلة، والطموحات النافعة، والأحلام المنعشة، وما أجمل أن تجعل بينهما في ساعتك الذهبية الحاضرة ذكر الله وما والاه من أمور الآخرة، فهو الدواء لحزن الماضي وخشية المستقبل الآتي.
إنك يجب أن تعمل بين عينيك لوحة مكتوب عليها: ما مضى فات، وما راح مات، وما انطوى طاح، وترسل له تعزيتك: عظّم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لمن أساء فيك، والحمد لله على نعمة المصيبة التي وقعت فيك، وإنني في عزة للحزن عليك، وشجاعتي لا تجعلني أنظر خلفي إليك، وكبريائي تمنعني لتذكّر مساويك، والسلام على من اتبع الهدى.