مهما بلغت رحمة الناس بنا فالله أرحم بنا منهم، ومهما بلغت رأفة الأم بولدها فالله أرأف به من أمه، فعطاء الله ليس له مثيل ولا يُقاس بعطاء المخلوقين، وكرمه واسع، وثوابه دائم، فإذا أعطاك فما أكرم المعطي وما أجمل العطية!! وإذا أخذ منك شيء فمِنْ حُبِه لك ليعطيك أفضل منه وأجمل.
ﺇﻥ ﻋﻤﺮ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻗﺼﻴﺮ, ﻭﻛﻨﺰﻫﺎ ﺣﻘﻴﺮ{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ()، ﻓﻤﻦ ﺃﺻﻴﺐ ﻫﻨﺎ ﻛﻮﻓﺊ ﻫﻨﺎﻙ، ﻭﻣﻦ ﺗﻌﺐ ﻫﻨﺎ اﺭﺗﺎﺡ ﻫﻨﺎﻙ، ﺃﻣﺎ اﻟﻤﺘﻌﻠﻘﻮﻥ ﺑﺎﻟﺪﻧﻴﺎ اﻟﻌﺎﺷﻘﻮﻥ ﻟﻬﺎ اﻟﺮاﻛﻨﻮﻥ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻓﺄﺷﺪ ﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻓﻮﺕ ﺣﻈﻮﻇﻬﻢ ﻣﻨﻬﺎ, ﻭﺗﻨﻐﻴﺺ ﺭاﺣﺘﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ, ﻷﻧﻬﻢ ﻳﺮﻳﺪﻭﻧﻬﺎ ﻭﺣﺪﻫﺎ, ﻓﻠﺬﻟﻚ ﺗﻌﻈﻢ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻤﺼﺎﺋﺐ, ﻭﺗﻜﺒﺮ ﻋﻨﺪﻫﻢ اﻟﻨﻜﺒﺎﺕ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻨﻈﺮﻭﻥ ﺗﺤﺖ ﺃﻗﺪاﻣﻬﻢ ﻓﻼ ﻳﺮﻭﻥ ﺇﻻ اﻟﺪﻧﻴﺎ اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ اﻟﺰﻫﻴﺪﺓ اﻟﺮﺧﻴﺼﺔ.
فعليك أن توطّن نفسك في الرضاء عن أقدار الله وقضاءه، فمهما ابتلاك إلا ليرفع قدرك، ومهما امتحنك إلا لتخفيف ذنوبك، ومهما أصابك إلا لأنه يحبك، ومهما أخذ منك شيء إلا ليعوضك أفضل منه، ومهما أخرَّك إلا لأنه يعلم أن في التقديم يلحقك ضرر، ومهما أفقرك إلا ليدخلك الجنة أول الداخلين، هذه هي سنة الله لعباده الثابتين كرسالة تحمل في ﺃﺳﻄﺮﻫﺎ ﻟﻄﻒ ﻭﻋﻄﻒ ﻭﺛﻮاﺏ ﻭﺣﺴﻦ اﺧﺘﻴﺎﺭ..
افرح بالمصيبة، افرح بالبلاء، افرح بالمحن، فإن فيها ما هو خفي عن نظرك من الحبُّ واللطف والرأفة وحسن الاختيار وتكفير الذنوب والسيئات، ورفعة في رصيد الحسنات، ﻓﻼ ﺗﺄﺳﻒ ﻋﻠﻰ ﻣﺼﻴﺒﺔ ﻓﺎﻥ اﻟﺬﻱ ﻗﺪﺭﻫﺎ ﻋﻨﺪﻩ ﺟﻨﺔ ﻭﺛﻮاﺏ ﻭﻋﻮﺽ ﻭﺃﺟﺮ ﻋﻈﻴﻢ..
ﻭﻟﺮﺑﻤﺎ ﺃﻥ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻗﺪ ﻳﺼﺎﺏ ﺑﻔﻘﺪ اﻟﺒﺼﺮ، ﻓﻴﺴﺘﺮﺟﻊ ﻭﻳﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ -ﻋﺰ ﻭﺟﻞ- فيعوﺿﻪ اﻟﻠﻪ ﺇﻳﻤﺎﻧﺎ ﻓﻲ ﻗﻠﺒﻪ، ﻭﻳﻘﻴﻨﺎ ﺑﺮﺑﻪ، ﻭﻗﺪ ﺟﺎءﺕ اﻣﺮﺃﺓ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ -ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ- ﻭاﺷﺘﻜﺖ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﺎ ﺗﺠﺪﻩ ﻣﻦ ﻓﻘﺪ ﻋﻘﻠﻬﺎ, ﻭاﻟﻤﺲّ اﻟﺬﻱ ﺃﺻﻴﺒﺖ ﺑﻪ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻬﺎ اﻟﻨﺒﻲ -ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ-: ((ﺇﻥ ﺷﺌﺖ ﺻﺒﺮﺕ ﻭﻟﻚ اﻟﺠﻨﺔ، ﻭﺇﻥ ﺷﺌﺖ ﺩﻋﻮﺕ اﻟﻠﻪ ﻟﻚ، ﻗﺎﻟﺖ: ﺃﺻﺒﺮ ﻭﻟﻲ اﻟﺠﻨﺔ)) ﻓﻜﺎﻧﺖ اﻣﺮﺃﺓ ﻣﺒﺸﺮﺓ ﺑﺎﻟﺠﻨﺔ ﻭﻫﻲ ﺗﻤﺸﻲ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ اﻷﺭﺽ، ﻭﻛﺎﻥ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ -ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ- ﻳﻘﻮﻝ ﻷﺻﺤﺎﺑﻪ: ﻫﻞ ﺃﺭﻳﻜﻢ اﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﺠﻨﺔ؟ اﻧﻈﺮﻭا ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ اﻟﻤﺮﺃﺓ اﻟﺴﻮﺩاء. ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﺎ ﻭﺃﺭﺿﺎﻫﺎ().
وفي الحديث: ((ﻣﻦ ﺃذهبت ﺣﺒﻴﺒﺘﻴﻪ ﻓﺼﺒﺮ ﻋﻮﺿﺘﻪ ﻣﻨﻬﻤﺎ اﻟﺠﻨﺔ))() ﻳﻌﻨﻲ ﻋﻴﻨﻴﻪ ((ﻣﻦ قبضت ﺻﻔﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺛﻢ اﺣﺘﺴﺐ ﻋﻮﺿﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺔ) )() يعني من أولاده. فما أجمل العوض من الله!.
فمهما حلت بالعبد مصيبة ثم رفع بصره إلى السماء -وكأن الله يوحى إليه أن يصبر- فصبر ابتغاء مرضات الله, وطلب العوض من الله, فإن الله لا يرده خائبا, بل حقٌ على الله أن يثيبه عوضا عما صبر عليه من المصائب, ومهما كان العبد بحاجة مآسة إلى شيء ثم تركه لوجه الله, أو خوفا من الله, فإن الله وعد بأن يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب, والله لا يخلف الميعاد.
ﺫﻛﺮ اﺑﻦ ﺭﺟﺐ ﻓﻲ ﺗﺮﺟﻤﺔ اﻟﻘﺎﺿﻲ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ اﻷﻧﺼﺎﺭﻱ اﻟﺒﺰاﺯ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺖ ﻣﺠﺎﻭﺭا ﻓﻲ ﻣﻜﺔ ﻓﺄﺻﺎﺑﻨﻲ ﻳﻮﻣﺎ ﻣﻦ اﻷﻳﺎﻡ ﺟﻮﻉ ﺷﺪﻳﺪ، ﻭﻟﻢ ﺃﺟﺪ ﺷﻴﺌﺎ ﺃﺩﻓﻊ ﺑﻪ ﻋﻨﻲ ﺫﻟﻚ اﻟﺠﻮﻉ، ﻭﺧﺮﺟﺖ ﺃﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻃﻌﺎﻡ ﻓﻠﻢ ﺃﺟﺪ، ﻓﻮﺟﺪﺕ ﻛﻴﺴﺎ ﻣﻦ ﺣﺮﻳﺮ ﻣﺸﺪﻭﺩا ﺑﺮﺑﺎﻁ ﻣﻦ ﺣﺮﻳﺮ ﺃﻳﻀﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺄﺧﺬﺗﻪ ﻭﺟﺌﺖ ﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﺘﻲ، ﻭﺣﻠﻠﺘﻪ ﻓﻮﺟﺪﺕ ﻓﻴﻪ ﻋﻘﺪا ﻣﻦ ﻟﺆﻟﺆ ﻟﻢ ﺃﺭَ ﻣﺜﻠﻪ ﻗﻂ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺮﺑﻄﺘﻪ ﻭﺃﻋﺪﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ، ﺛﻢ ﺧﺮﺟﺖ ﺃﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻃﻌﺎﻡ ﻓﻮﺟﺪﺕ ﺷﻴﺨﺎ ﻳﻨﺎﺩﻱ ﻭﻳﻘﻮﻝ: ﻣﻦ ﻭﺟﺪ ﻟﻨﺎ ﻛﻴﺴﺎ ﺻﻔﺘﻪ ﻛﺬا ﻭﻛﺬا ﻓﻠﻪ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﺩﻳﻨﺎﺭ ﻣﻦ اﻟﺬﻫﺐ.
ﻗﺎﻝ: ﻓﻘﻠﺖ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻲ ﺇﻧﻲ ﻣﺤﺘﺎﺝ ﻭﺟﺎﺋﻊ, ﺃﻓﺂﺧﺬ ﻫﺬﻩ اﻟﺪﻧﺎﻧﻴﺮ ﻷﻧﺘﻔﻊ ﺑﻬﺎ ﻭﺃﺭﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﻛﻴﺴﻪ؟ ﻻ ﺿﻴﺮ، ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﺗﻌﺎﻝ ﺇﻟﻲّ ﻓﺄﺧﺬﺗﻪ، ﻭﺫﻫﺒﺖ ﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﺘﻲ، ﻭﺳﺄﻟﺘﻪ ﻋﻦ ﻋﻼﻣﺔ اﻟﻜﻴﺲ، ﻭﻋﻼﻣﺔ اﻟﻠﺆﻟﺆ، ﻭﻋﺪﺩ اﻟﻠﺆﻟﺆ، ﻭاﻟﺨﻴﻂ اﻟﻤﺸﺪﻭﺩ ﺑﻪ، ﻓﺈﺫا ﻫﻮ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺄﺧﺮﺟﺘﻪ ﻭﺩﻓﻌﺘﻪ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﺴﻠﻢ ﺇﻟﻲّ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﺩﻳﻨﺎﺭ -اﻟﺠﺎﺋﺰﺓ اﻟﺘﻲ ﺫﻛﺮﻫﺎ- ﻗﺎﻝ: ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻲّ ﺃﻥ ﺃﻋﻴﺪﻩ ﻟﻚ ﻭﻻ ﺁﺧﺬ ﻟﻪ ﺟﺰاء. ﻗﺎﻝ: ﻻﺑﺪ ﺃﻥ ﺗﺄﺧﺬ. ﻭﺃﻟﺢ ﻋﻠﻲّ ﻛﺜﻴﺮا, ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺣﻮﺝ ﻣﺎ ﺃﻛﻮﻥ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻘﻠﺖ: ﻭاﻟﺬﻱ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﻫﻮ! ﻣﺎ ﺁﺧﺬ ﻋﻠﻴﻪ ﺟﺰاء ﻣﻦ ﺃﺣﺪ ﺳﻮﻯ اﻟﻠﻪ، ﻓﻠﻢ ﻳﻘﺒﻞ اﻟﺪﻧﺎﻧﻴﺮ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺘﺮﻛﻨﻲ ﻭﻣﻀﻰ.
قال: ﻭﺭﺟﻊ اﻟﺸﻴﺦ -صاحب العقد- ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺳﻢ اﻟﺤﺞ ﺇﻟﻰ ﺑﻠﺪﻩ، ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﻓﺈﻧﻲ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﻣﻜﺔ ﻭﺭﻛﺒﺖ اﻟﺒﺤﺮ ﻓﻲ ﻭﺳﻂ ﺃﻣﻮاﺟﻪ اﻟﻤﺘﻼﻃﻤﺔ ﻭﺃﻫﻮاﻟﻪ، ﻓﺎﻧﻜﺴﺮ اﻟﻤﺮﻛﺐ، ﻭﻏﺮﻕ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻫﻠﻜﺖ اﻷﻣﻮاﻝ.
ﻗﺎﻝ: ﻭﺳﻠﻤﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﺇﺫ ﺑﻘﻴﺖ ﻋﻠﻰ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻤﺮﻛﺐ ﺗﺬﻫﺐ ﺑﻲ ﻳﻤﻨﺔ ﻭﻳﺴﺮﺓ، ﻻ ﺃﺩﺭﻱ ﺇﻟﻰ ﺃﻳﻦ ﺗﺬﻫﺐ ﺑﻲ، ﻭﺑﻘﻴﺖ ﻣﺪﺓ ﻓﻲ اﻟﺒﺤﺮ ﺗﺘﻘﺎﺫﻓﻨﻲ اﻷﻣﻮاﺝ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ, ﺣﺘﻰ ﻟﻔﻈﺘﻨﻲ ﺇﻟﻰ ﺟﺰﻳﺮﺓ ﻓﻴﻬﺎ ﻗﻮﻡ ﺃﻣﻴﻮﻥ ﻻ ﻳﻘﺮءﻭﻥ ﻭﻻ ﻳﻜﺘﺒﻮﻥ.
ﻗﺎﻝ: ﻓﺠﻠﺴﺖ ﻓﻲ ﻣﺴﺠﺪﻫﻢ، ﻭﻛﻨﺖ ﺃﻗﺮﺃ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻤﺎ ﺃﻥ ﺭﺁﻧﻲ ﺃﻫﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﺣﺘﻰ اﺟﺘﻤﻌﻮا ﻋﻠﻲّ، ﻓﻠﻢ ﻳﺒﻖ ﻓﻲ اﻟﺠﺰﻳﺮﺓ ﺃﺣﺪ ﺇﻻ ﻗﺎﻝ: ﻋﻠﻤﻨﻲ اﻟﻘﺮﺁﻥ.
ﻗﺎﻝ: ﻓﻌﻠﻤﺘﻬﻢ اﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﺣﺼﻞ ﻟﻲ ﺧﻴﺮ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺟﺮاء ﺫﻟﻚ، ﻗﺎﻝ: ﺛﻢ ﺇﻧﻲ ﺭﺃﻳﺖ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻣﺼﺤﻔﺎ ﻣﻤﺰﻗﺎ، ﻓﺄﺧﺬﺕ ﺃﻭﺭاﻗﻪ ﻷﻗﺮﺃ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﺃﺗﺤﺴﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ؟. ﻗﻠﺖ: ﻧﻌﻢ. ﻗﺎﻟﻮا: ﻋﻠﻤﻨﺎ اﻟﺨﻂ. ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﺖ: ﻻ ﺑﺄﺱ، ﻓﺠﺎءﻭا ﺑﺼﺒﻴﺎﻧﻬﻢ ﻭﺷﺒﺎﺑﻬﻢ ﻓﻜﻨﺖ ﺃﻋﻠﻤﻬﻢ، ﻭﺣﺼﻞ ﻟﻲ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺧﻴﺮ ﻋﻈﻴﻢ.
ﺛﻢ ﺭﻏﺒﻮا ﻓﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻟﻮا ﻟﻪ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻭﻫﻢ ﻳﺮﻳﺪﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻌﻬﻢ: ﻋﻨﺪﻧﺎ فتاة ﻳﺘﻴﻤﺔ ﻭﻣﻌﻬﺎ ﺷﻲء ﻣﻦ اﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭﻧﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻧﺰﻭﺟﻚ ﺑﻬﺎ، ﻭﺗﺒﻘﻰ ﻣﻌﻨﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﺠﺰﻳﺮﺓ.
ﻗﺎﻝ: ﻓﺎﻣﺘﻨﻌﺖ، ﻓﺄﻟﺤّﻮا ﻋﻠﻲّ ﻭﺃﻟﺰﻣﻮﻧﻲ، ﻓﻠﻢ ﺃﻣﻠﻚ ﺃﻣﺎﻡ ﺇﻟﺤﺎﺣﻬﻢ ﻭﺇﺻﺮاﺭﻫﻢ ﺇﻻ ﺃﻥ ﺃﺟﺒﺖ ﻟﻄﻠﺒﻬﻢ، ﻓﺠﻬﺰﻭﻫﺎ ﻟﻲ، ﻭﺯﻓﻮﻫﺎ ﺇﻟﻲّ ﻣﺤﺎﺭﻣﻬﺎ ﻭﺟﻠﺴﺖ ﻣﻌﻬﻢ، ﻭﺇﺫا ﺑﻲ ﺃﻧﻈﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭﺇﺫا ﺫﻟﻚ اﻟﻌﻘﺪ اﻟﺬﻱ ﺭﺃﻳﺘﻪ ﺑـ ﻣﻜﺔ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﻣﻌﻠﻖ ﻓﻲ ﻋﻨﻘﻬﺎ ﻓﺪﻫﺸﺖ، ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻟﻲ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﻣﻦ ﺷﻐﻞ ﺇﻻ اﻟﻨﻈﺮ ﻟﻬﺬا اﻟﻌﻘﺪ، ﻓﻘﺎﻝ ﻣﺤﺎﺭﻣﻬﺎ: ﻳﺎ ﺷﻴﺦ! ﻛﺴﺮْﺕَ ﻗﻠﺐ ﻫﺬﻩ اﻟﻴﺘﻴﻤﺔ، ﻟﻢ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ اﻟﻌﻘﺪ. ﻗﻠﺖ ﻟﻬﻢ: ﺇﻥ ﻟﻬﺬا اﻟﻌﻘﺪ ﻗﺼﺔ. ﻗﺎﻟﻮا: ﻭﻣﺎ ﻫﻲ؟. ﻓﻘﺼﺼﺘﻬﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﺼﺎﺣﻮا ﻭﺿﺠﻮا ﺑﺎﻟﺘﻬﻠﻴﻞ ﻭاﻟﺘﻜﺒﻴﺮ، ﻭﺻﺮﺧﻮا ﺑﺎﻟﺘﺴﺒﻴﺢ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻎ ﺻﻮﺗﻬﻢ ﺃﻧﺤﺎء اﻟﺠﺰﻳﺮﺓ.
ﻓﻘﻠﺖ: ﺳﺒﺤﺎﻥ اﻟﻠﻪ! ﻣﺎ ﺑﻜﻢ؟. ﻗﺎﻟﻮا: ﺇﻥ اﻟﺸﻴﺦ اﻟﺬﻱ ﺃﺧﺬ ﻣﻨﻚ اﻟﻌﻘﺪ ﻓﻲ ﻣﻜﺔ ﻫﻮ ﺃﺑﻮ ﻫﺬﻩ اﻟﺼﺒﻴﺔ، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻋﻨﺪ ﻋﻮﺩﺗﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﺞ ﻭﻳﺮﺩﺩ ﺩاﺋﻤﺎ: ﻭاﻟﻠﻪ! ﻣﺎ ﻭﺟﺪﺕ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ اﻷﺭﺽ ﻣﺴﻠﻤﺎ ﻛﻬﺬا اﻟﺬﻱ ﺭﺩ ﻋﻠﻲّ اﻟﻌﻘﺪ ﻓﻲ ﻣﻜﺔ، اﻟﻠﻬﻢ اﺟﻤﻊ ﺑﻴﻨﻲ ﻭﺑﻴﻨﻪ ﺣﺘﻰ ﺃﺯﻭﺟﻪ اﺑﻨﺘﻲ، ﻭﺗﻮﻓﻰ ﺫﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ، ﻭﺣﻘﻖ اﻟﻠﻪ ﺩﻋﻮﺗﻪ ﻭﺯﻭﺟﻚ ﺑﺎﺑﻨﺘﻪ.
ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﻓﺒﻘﻴﺖ ﻣﻌﻬﺎ ﻣﺪﺓ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺧﻴﺮ اﻣﺮﺃﺓ، ﺭُﺯﻗﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻮﻟﺪﻳﻦ، ﺛﻢ ﺗُﻮﻓِﻴﺖْ ﻓﻌﻠﻴﻬﺎ ﺭﺣﻤﺔ اﻟﻠﻪ، ﻓﻮﺭﺛﺖ اﻟﻌﻘﺪ اﻟﻤﻌﻬﻮﺩ ﺃﻧﺎ ﻭﻭﻟﺪﻱّ، ﻗﺎﻝ: ﺛﻢ ﺗﻮﻓﻲ اﻟﻮﻟﺪاﻥ ﻭاﺣﺪا ﺗﻠﻮ اﻵﺧﺮ، ﻓﻮﺭﺛﺖ اﻟﻌﻘﺪ ﻣﻨﻬﻤﺎ، ﻓﺒﻌﺘﻪ ﺑﻤﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ ﺩﻳﻨﺎﺭ.
ﻭﻳﺤﺪﺙ ﺑﻌﺪ ﻣﺪﺓ ﻭﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺬا ﻣﻦ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﺛﻤﻦ ﺫﻟﻚ اﻟﻌﻘﺪ، ﻓﺮﺣﻤﺔ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﺠﻤﻴﻊ().
ﻣﻦ ﺗﺮﻙ ﺷﻴﺌﺎ ﻟﻠﻪ ﻋﻮﺿﻪ اﻟﻠﻪ ﺧﻴﺮا ﻣﻨﻪ، ﻭﺻﻨﺎﺋﻊ اﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﺗﻘﻲ ﻣﺼﺎﺭﻉ اﻟﺴﻮء{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}().
وذكر أحد الدعاة أن رجلا ﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﻣﻦ اﻷﻳﺎﻡ ﺩﺧﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﺑﻴﻪ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﻫﻢّ ﻭﻏﻢّ، ﻓﻠﻤﺎ ﻧﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺄﻟﻪ، ﻓﺈﺫا ﺑﻪ ﻗﺪ ﺃﺻﺎﺑﻪ ﺩﻳﻦ، ﻳﻘﻮﻝ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ -ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﻋﺒﺎﺩ اﻟﻠﻪ اﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ، ﻭﻣﻦ اﻟﺸﺒﺎﺏ اﻷﺧﻴﺎﺭ-: ﻓﻜﺎﻥ ﺩﻳﻦ ﻭاﻟﺪﻱ ﺑﻤﻘﺪاﺭ ﻋﺸﺮﺓ ﺁﻻﻑ ﺃﻭ ﺧﻤﺴﺔ ﻋﺸﺮ ﺃﻟﻔﺎ، ﻭﻛﺎﻥ ﻣﺎﻟﻲ ﻋﺸﺮﻭﻥ ﺃﻟﻒ, ﺗﻌﺒﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺟﻤﻊ ﻫﺬا اﻟﻤﺎﻝ؛ ﻟﻜﻲ ﺃﺑﻨﻲ ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻲ، ﻓﻠﻤﺎ ﻧﻈﺮﺕُ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﺃﺻﺎﺏ ﺃﺑﻲ ﺫﻛﺮﺕ ﻭﺻﻴﺔ اﻟﻠﻪ ﺑﺎﻟﻮاﻟﺪﻳﻦ، ﻭﺫﻛﺮﺕ ﻭﺻﻴﺔ اﻟﻠﻪ ﺑﺎﻹﺣﺴﺎﻥ ﺇﻟﻴﻬﻤﺎ، ﻓﻘﻠﺖ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻲ: ﻟﻮ ﺃﻧﻨﻲ ﺃﻋﻄﻴﺘﻪ ﻫﺬا اﻟﻤﺎﻝ اﻟﺬﻱ ﺃﻣﻠﻜﻪ، ﻓﺠﺎءﻧﻲ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻲ: ﺗﻌﺒﻚ ﻭﻣﺎﻟﻚ ﻭﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻚ ﻳﻀﻴﻊ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﻠﺤﻈﺔ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﻓﻲ ﺻﺮاﻉ ﻫﻞ ﺃﻋﻄﻴﻪ ﺃﻭ ﻻ ﺃﻋﻄﻴﻪ! ﻓﻘﺮﺭﺕ ﺃﻥ ﺃﻋﻄﻴﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺬﻫﺒﺖ ﻓﺄﺧﺬﺕ اﻟﻤﺎﻝ ﻭﻛُﻠّﻲ ﻳﻘﻴﻦ ﺑﺄﻥ اﻟﻠﻪ ﺳﻴﻌﻮﺿﻨﻲ ﻋﻨﻲ، ﻓﻮﺿﻌﺖ اﻟﺨﻤﺴﺔ ﻋﺸﺮ ﺃﻟﻔﺎ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ، ﻭﺃﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﻳﻘﻴﻦ ﺑﺄﻥ اﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﺨﻴﺒﻨﻲ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻓﻠﻤﺎ ﻭﺿﻌﺘﻬﺎ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﻓﺎﺿﺖ ﻋﻴﻨﺎﻩ ﺑﺎﻟﺪﻣﻊ ﻭﻗﺎﻝ: ﺃﺳﺄﻝ اﻟﻠﻪ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﺃﻥ ﻳﻔﺘﺢ ﻟﻚ ﺃﺑﻮاﺏ ﻓﻀﻠﻪ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻓﻘﻤﺖ ﻣﻦ ﻋﻨﺪﻩ، ﻭﻣﺎ ﻣﻀﺖ ﺇﻻ ﺃﻳﺎﻡ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻓﺪﻋﻴﺖ ﺇﻟﻰ ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﺭﺟﻞ ﻣﻦ اﻷﺛﺮﻳﺎء، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺭﺟﻞ ﻳﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﻮاﻟﻪ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬﻱ اﺳﺘﻀﺎﻓﻪ: ﻟﻦ ﺗﺠﺪ ﺃﺻﻠﺢ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬﻱ ﺃﻣﺎﻣﻚ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻓﺄﺧﺬﻧﻲ ﻭﻛﻴﻼ ﻋﻠﻰ ﻣﺎﻟﻪ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺃﻭﻝ ﺻﻔﻘﺔ ﻟﻲ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ اﻟﻤﺎﻝ ﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﺑﻴﻌﺔ ﻣﺎﺋﺘﺎ ﺃﻟﻒ ﺭﻳﺎﻝ، ﻓﺮحمه اﻟﻠﻪ -تعالى- ﻭﻟﻢ ﻳﺨﻴﺒﻪ -ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ-().
وأذكر أنني قبل فترة كنت قد أنهيتُ عملي وكانت الساعة الثامنة صباحا، وأنا متوجه إلى التدريس في إحدى المدارس, ودوام المدرسة يبدأ الساعة الثامنة ونصف –تقريبا-، فبقي لي نصف ساعة، والمسافة كانت بعيدة من مكان عملي إلى المدرسة، فجلستُ منتظرا بجانب خط السيارات أنتظر سيارة توقف لي، مع العلم أن السيارات قليلة المرور في ذلك الوقت المبكر، وكان عندي بعض الشباب فجاءت سيارة، وأوقفت لنا ولكن صوت الغناء فيها مزعج فركبتُ وقبل أن يمشي قلتُ له: من فضلك أوقف الموسيقى، ولكنه رفض, فنزلت من سيارته ووقفت أنتظر، فتعجب الشباب مني وقالوا لي: خسرت دراستك لو أنك ركبت كنت متفوق ولكنك أبيت. فبدأتُ أشرح لهم كيف أن العبد لو ترك شيئا لله أن الله سيعوضه خير منه، وذكرتهم بأن الله يأتي بالمستحيل من شأنك لأنك تركت شيئا من شأنه، وقبل أن أنهي حديثي معهم إذ بدراجة نارية وفيها شاب يغطي وجهه بعمامته ويشير إليّ أن آتيه، فجئته وإذا به من أصحابي الذين أعرفهم فقال لي: حظك حسن أول يوم أجي إلى هنا, اطلع معي. فطلعت معه وبدقائق وصلت المدرسة وبدون أجر الركوب.. فحمدتُ الله وشكرته على حسن العوض منه.