انظر في آيات الله, وتأمل في صنع الله –تعالى-, إن داهمك الحزن والخوف فانظر في قوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا}().
إن شعرت بالضيق فانظر سعة الأرض والسموات, وإن تعسّرت عليك الأمور فتأمل قول الله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}().
إن أُغلقت في وجهك أبواب الرزق فانظر في قول الله –تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ}().
إن جاءك اليأس والقنوط فقف مع قوله –تعالى-: {لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}().
إن شعرت بالهزيمة فمعك القوة التي لا تُقهر, والنصر الذي لا يُهزم, والجُند التي لا تُغلب{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}().
إن شعرت بالمؤامرة والتخطيط فتذكر: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}().
إن داهمك حزن المعاصي والذنوب فعُد إلى قوله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(){وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}().
إن ظُلِمت من أحد فتذكر: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}().
تفكر وانظر في كل شيء, فالله خالق كل شيء, وهو خير المسؤولين، وأكرم المعطين، ورازق الناس أجمعين, يعلم حوائج السائلين، وضمائر الصامتين، وأسرار صدور العالمين.
لا يزداد على كثرة السؤال إلا جودا وكرما، ولا على كثرة الحوائج إلا تفضلا وإحسانا.
هو العلي الكبير، الولي الحميد، العزيز المجيد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، الحي القيوم، القوي المتين، العظيم الجليل، له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وله الحكم والتقدير، والملك والتدبير، ليس له في صفاته شبيه ولا نظير، ولا له في آلهيته شريك ولا ظهير، ولا له في سلطانه ولي ولا نصير.
سبحانه من مليك ما أمنعه، وجواد ما أوسعه، ورفيع ما أرفعه، لا راد لمشيئته، ولا مبدل لكلماته، قوله حكم، وقضاؤه حتم، وأمره رشد، باهر الآيات، فاطر السموات، بارئ السمات، مجيب الدعوات، مغيث اللهفات، مقيل العثرات. أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأعز من كل شيء، وأقدر من كل شيء، وأعلم من كل شيء، وأحكم من كل شيء.
ويصف ابن القيم -رحمه الله- عظمة الله بكلام عذب جميل فيقول: يدبر أمر الممالك ويأمر وينهى, ويخلق ويرزق, ويميت ويحيي, ويعز ويذل, ويقلب الليل والنهار، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الدول فيذهب بدولة ويأتي بأخرى، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها, وفي الأرض وما عليها وما تحتها, وفي البحار والجو، قد أحاط بكل شيء علماً, وأحصى كل شيء عدداً .. ووسع سمعه الأصوات, فلا تختلف عليه, ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة والسر عنده علانية ...{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}() يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين ... لو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وأخرهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً, ولو أن أول خلقه وأخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وأخرهم، وإنسهم وجنهم، وحيهم وميتهم، ورطبهم ويابسهم، قاموا على صعيد واحد فسألوه فأعطى كلا منهم ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة ... هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس دونه شيء، -تبارك وتعالى- أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأولى من شكر، وارأف من ملك، وأجود من سئل ... هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والصمد فلا ولد له، والعلي فلا شبيه له، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل شيء زائل إلا ملكه ... لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، عطاؤه كلام وعذابه كلام إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون().
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله، أو نعموا ... فبفضله، وهو الكريم الواسع.
للمتفكرين, والمتأمّلين, والناظرين, الذين يريدون إسعاد حياتهم, وطرد الحزن منها فيطالعوا هذا الكون, ولينظروا في هذه الخليقة, فهذا الكون مليء بالشواهد التي تدل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-, وكل شاهد من هذه الشواهد يوصل إلى الذي يليه حتى يصل الأمر إلى الشاهد الأكبر، وهو شهود جلال الرب -تبارك وتعالى- وعظمته، وقديما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير، ومسير الأقدام يدل على المسير، فسماء ذات أبراج, وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير.
لله في الآفاق آيات لعل ... أقلـــها هو ما إلـــيه هــــداكــا
ولعل ما في النفس من آياته...عجب عجاب لو ترى عيناكا..
وأول نظرٍ انظر في هذه الدنيا الحقيرة, فهي لا تستحق الحزن, ولا تستحق الجري والتعب وراءها, بائنة حقارتها، وقلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها، وسرعة انقضائها, حزنها أكثر من سعادتها, وفقرها أكثر من غناها.
ثم انقل النظر في الآخرة وما فيها, الجنة, وما أدراك ما الجنة؟!, أعد الله لأهلها فيها، ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فضلا عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل، الكفيل بأعلى أنواع اللذة، من المطاعم والمشارب، والملابس والصور، والبهجة والسرور, تربتها المسك، وحصباؤها الدر، وبناؤها لبن الذهب والفضة، وقصب اللؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، وأبرد من الكافور، وألذ من الزنجبيل، ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة، لا مقطوعة لا ممنوعة، وفرش مرفوعة, وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم عليه خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون, وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكؤون، وفي تلك الرياض يحبرون، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون, ولهم فيها أعظم من هذا النعيم, إنه نعيم وسرور ولذة النظر إلى وجه الله –تعالى- ربهم وخالقهم ورازقهم ومسعدهم وميسر أُمورهم قال -عليه الصلاة والسلام-: ((بينما أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور, فرفعوا رؤوسهم, فإذا الرب –تعالى- قد أشرف عليهم من فوقهم, وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم ثم قرأ قوله –تعالى-: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}()().