إنك سوف تواجه في حياتك حرباً ضروساً لا هوادة فيها من النقد الآثم المر، ومن التحطيم المدروس المخصوص، ومن الإهانة المتعمدة، ما دام أنك تعطي، وتبني وتؤثر، وتسطع وتلمع وتبدع، ولن يسكت هؤلاء عنك حتى تتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتفر من هؤلاء، أما وأنت بين أظهرهم فانتظر منهم ما يسوؤك، ويبكي عينك، ويدمي مقلتك، ويقض مضجعك.
إن الجالس على الأرض لا يسقط، والناس لا يرفسون كلباً ميتاً؛ لكنهم يغضبون عليك؛ لأنك فُقْتَهم صلاحاً أو علماً أو أدباً أو مالاً أو بياناً أو جهداً، فأنت عندهم مذنب لا توبة لك حتى تترك مواهبك، ونعم الله عليك، وتنخلع من كل صفات الحمد، وتنسلخ من كل معاني النبل، وتبقى بليداً غبياً صفراً محطماً مكدوداً، هذا ما يريدون بالضبط.
إذاً: فاصمد لكلام هؤلاء، إذاً: (فاثبت أُحُد) واصبر على نقدهم وتشويههم وتجريحهم وتحقيرهم، وكن كالصخرة الصامدة المهيبة تتكسر عليها حبات البرد، لتثبت وجودها وتعلن صمودها، وقدرتها على البقاء.
إنك إن أصغيت لكلام هؤلاء وتفاعلت به حققت أمنيتهم الغالية في تعكير حياتك, وتكدير عمرك، ألا فاصفح الصفح الجميل، ألا فاعرض عنهم{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}().
إن الله -تعالى الغني عن الناس وعن سؤال الناس وعن ثناء الناس وعن معصية الناس– قد أُوذي من الناس بكلام لا تستطيع أن تتحمله أنت, فقد قالوا عنه: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}() {هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}() {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}() ومع كل هذا إلا أنه يقول للناس: {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}().
وكذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم– لم يسلم من كلام النقّاد, ومن عداوة الأعداء, ومكالبة الأشرار, فقد قالوا عليه ساحر, مجنون, كاهن, مفتري, كذاب, دجال, مشعوذ, وأخرجوه من مكة, ورموا سُلى الجزور على ظهره, وشجوا رأسه حتى سال الدم, فقال الله له: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً}() فصبر الصبر الجميل, وكان باستطاعته بدعوة لله –تعالى- أن يُهلك الأرض ومن عليها ولكنه{رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}() فقال له ملك الجبال: إن شئت أطبقتُ عليهم الأخشبين -جبلين يحيطان بمكة- فتذكر رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قول ربه: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}() وقال لِمَلَكِ الجبال: ((لا! إني أرجو من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا))().
فإذا كان الله –تعالى-, ورسوله –صلى الله عليه وسلم– لم يسلما من النقد الدائم, والعداوة الظاهرة الشرسة, فلا تظن أنك أنت باستطاعتك أن تسلم من الناس؛ لأنك لن تستطيع أن تغلق أفواه البشر، ولن تستطيع أن تعقد ألسنتهم؛ لكنك تستطيع أن تدفن نقدَهم وتجنيهم بتجافيك لهم وإهمالك لشأنهم، واطراحك لأقوالهم بصبرك وصفحك وسكوتك{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}().
إنك إن عاملت المُسيء بمثل ما يُعاملك به, ما إن تهدأ يبدأ التسآول في نفسك وتقول: لو أني صبرت! لو أني سامحت!, لو أني صفحت!, فيُريبك الندم والحزن, ولكن عليك بالصفح تجاه المُسيئين إليك, تجد السعادة تملأ قلبك, وينشرح صدرك, ويهدأ قلبك, ويعلو شأنك, واقتدِ بمن سبقك من الأنبياء والصالحين واقرأ القرآن تجد العجب العجاب من أهل الصفح والسمح.
يوسف -عليه السلام- أُوذي من إخوته وقال والجرح ما زال في قلبه منهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}() ويعقوب -عليه السلام- قال وألم الفراق ما زال على قلبه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}() وإبراهيم -عليه السلام- يقول لأبيه وهو ما زال على الكفر والشرك والعناد: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}()ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه أخرجوه من مكة، وطاردوه وشتموه وسبوه وآذوه، حاربوه في المعارك، ونازلوه في الميدان، وقاموا بحرب عسكرية وإعلامية واقتصادية ضده، فلما انتصر ماذا فعل؟ دخل مكة منتصراً، ووقفت له الأعلام مكبرة، وطنت بذكر نصره الجبال والوهاد، فلما انتصر، وقف عند حلق باب الكعبة -صلى الله عليه وسلم-منحنياً، وهو يقول للقرابة وللعمومة: ((ما ترون أني فاعل بكم؟)) فيتصورون الجزاء المر, والقتل الحار, والموت الأحمر، فيقولون وهم يتباكون: أخ كريم وابن أخ كريم، فتدمع عيناه، ويقول: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء!)) () فاقتدِ بهم, وتأسّى بهم وليكن شعارك الذي تحمله, والعَلَمَ الذي ترفعه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}() {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}() {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}().
فليكن هذا شعارك, وحتما ستجني ثمرة صفحك وإعفائك عن المُسيء في الدنيا قبل الآخرة, وتنال السعادة والسرور والحياة الطيبة.
انظر إلى كيف التعامل مع الناس من حيث ردّ المعاملة السيئة قيل لأحدهم: إن فلاناً من الناس يقع فيك، فيقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}().
ثم يقال له أخرى وقد ظُلم وبُهِت وسُبَّ وشتم: ألا تدعو على من ظلمك وسبك وشتمك؟ فيقول: من دعا على ظالمه فقد انتصر، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض)) ().
يُسبُّ أحدهم ويشتم بما ليس فيه فيقول: إن كنتَ صادقاً فغفر الله لي، وإن كنتَ كاذباً فغفر الله لك.
ويقال للثالث: إن فلاناً يقع فيك ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرك بسوء، فيقول: رجل صالح ابتلي فينا فماذا نعمل؟! من تعدى حدود الله فينا لم نتعد حدود الله فيه، العفو أفضل، لا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، فتعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك.
وقيل لآخر: إن فلان يقع فيك, فقال: مرحبا بالأجر الذي لم أتعب في تحصيله.
ويمرُّ أبو الدرداء بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى.
قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه.
قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}().
صدقوا ما عاهدوا: فعفوا وصفحوا وسامحوا, وهبوا النقص للفضل، والإساءة للإحسان، فصفت سرائرهم، ونصعت سيرهم، وسلمت صدورهم، ولهجت أنفسهم: {لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا}()().