اعلم أخي -هداك الله-, أن هدفي بتحذيرك من الدنيا ليس أن تترك الدنيا وتعمل للآخرة, لا! وألف لا!, إنما الهدف أنك لن تنال السعادة وأنت راكن إلى الدنيا معتمدا عليها وتجري وراءها, ولكن عليك -يا حبيبي- إن أردت العيش بسعادة فخذ من الدنيا ما يعينك للآخرة فقط, واعمل في الدنيا ما تسعد به نفسك من الخير ابتغاء وجه الله مع رغبتك في الآخرة, وإن الرغبة في الآخرة لا تعني إهمال الدنيا وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها, لا، وإنما الدنيا مزرعة للآخرة، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، وطلب العيش, وتحقيق الخير والعدل للناس جميعاً، كل أولئك هو زاد الآخرة.
والمسلم إنما يزاول هذه الحياة الدنيا وهو يعلم أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها, تاركا لها وراء ظهره لئلا تجره وراءها, كما يؤكد ذلك: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}().
ويجاهد المسلم نفسه لترقية هذه الحياة، وتسخير طاقاتها وقواها، عاملا فيها ما يؤمن به نفسه في الآخرة من أعمال البر والخير, والصلاح والسداد, ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى، وصابرا محتسبا الأجر من الله, وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة، لإنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هناك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة مؤقتة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى في الآخرة.
والاستمتاع بالطيبات من الدنيا حلال يدعو إليه الإسلام, ويأمر بالسعي فيها للحصول على مصدر الرزق, وعلى الحصول على مصدر العون للعمل للدار الآخرة{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}() والعمل للآخرة لا يقف في سبيل العمل للدنيا، بل إنه هو مع الاتجاه إلى الله فيه، ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره، ولا تنقص من آثاره، بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتعين العبد على العيش في راحة, وفي ثقة, دون الاعتماد إلى غيره, وتجعل الكسب طيباً، والمتاع به طيباً، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة.
والدنيا مكان الطاعات، ومهبط الرسالات، وزمان الأعمال الصالحة، وفيها بيوت الله، ومواطن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها ساحات الجهاد في سبيل الله .. وفيها الآيات الدالة على عظمة الله وقدرته من سماء وأرض، وجبال وبحار، ونبات وحيوان، وإنس وجان، وليل ونهار، وحياة وموت, وجميع ما على وجه الأرض جعله الله زينة لهذه الدار فتنة للناس واختباراً من مآكل لذيذة، ومشارب مختلفة، وملابس طيبة، ومياة وبحار، وزروع وأشجار وثمار، ورياض وأزهار، وذهب وفضة، وخيل وإبل, ونحو ذلك كما قال –سبحانه-: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}() فمن أحسن السعي فيها نال سعادته في الدنيا والآخرة, ومن نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها ما يستعين به على ما خلق له، ويجعل الدنيا منزل عبور لا محل حبور، فيبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل الموصل للجنة.
والسعي في الدنيا بطريقة مهذبة لنيل المنافع, وكسب المعايش, واغتنام الفرصة للإقدام للآخرة, ليس بالممنوع ولا بالمقطوع, وقد فهم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك فركبوها ولم تركبهم، وعَبَّدوها لله ولم تستعبدهم، وقاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله، ويرجون الدار الآخرة، فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة.
فكن في الدنيا كعابر سبيل تأخذ منها ما يعينك على سفرك, وتزود منها ما يكفيك لرحلتك, ولا تركن إليها, فإنك إن اعتمدت عليها, وعشت فيها ولم تحسب للآخرة حسبان, سلبتك سعادتك في الدنيا فتعيش مهموما مغموما حزينا منكسا الرأس, مكسور الجناح, وسلبتك سعادتك في الآخرة فتخسر النعيم الذي لا ينفد, والخير الذي لا يكمل, والسرور الذي لا ينتهي{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}().
كن على علم أن الدنيا صغيرة ناقصة, والآخرة كبيرة كاملة فيها كمال النعيم، والدنيا فانية زائلة والآخرة دائمة باقية, في الدنيا تعب ونكد وأحزان, وفي الآخرة جنة, الخير فيها كله بحذافيره، ففيها من الخير ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر, والنعيم فيها بكله, وفيها النعيم الذي يطلبه كل عابد زاهد, إنه النعيم برؤية الرب الرحيم، وسماع كلامه، ورضوانه, ونعيمٌ بما أعده الله لعباده المتقين من المساكن والقصور، وألوان الطعام والشراب، والحور العين، والجنات والبساتين, والطلب موجود فيها بكله, كل ما تشتهيه الأنفس، وتتلذذ به من الطعام والشراب، وثمرات النخيل والأعناب، ومن الشراب أنهار الخمر والعسل واللبن والماء{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}().
فاعمل في طريق الدنيا إلى الآخرة فليس هناك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا، إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة, وهذا الطريق هو الإيمان والتقوى التي علامتها تحقيق المنهج الإلهي في النفس وفي الحياة الدنيا، وبذلك تصلح الحياة الدنيوية والحياة الأخروية, ويبلغ الإنسان غايته في السعادة في الدنيا والآخرة.
والمنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلاً عن الدنيا، ولا يجعل سعادة الآخرة بديلاً عن سعادة الدنيا .. ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا. لا!, إن الإيمان جعل مسار الإنسان إلى ربه مسارا واحدا يلتقي فيه طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}().
فاعمل في الدنيا بالقصد, ولا تقل: أنا أُريد الآخرة وتقعد في بيتك طالبا الرزق من الله دون العمل بالأسباب المؤدية لجلب الرزق الحلال الطيب, والذي يترك أسباب الكسب والمعيشة في الحياة الدنيا يكون معطلاً لرزق الله الموهوب للعباد، جافياً عنه، راضياً بما يلقمه الناس من فضلاتهم، ويقف ذليلاً بأبوابهم، وقد ترك الباب الذي فتحه الله ليكسب الدنيا والآخرة، وينشغل في معاشه عن أوامر الله وطاعته، وهكذا يخسر الآخرة؛ لأنه خسر الدنيا، وقد أمرنا الله بالقيام بأسباب الكسب للدنيا والآخرة{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}().
فجدّ نفسك في طلب العيش وطلب الرزق مع ترك الركون إلى الدنيا ورفع الهمة لطلب ما عند الله –تعالى- من النعيم واللذة, واجعل حياتك كلها لله –تعالى-, واجعل لنفسك شعارا وعَلَمَاً ترفعه{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}().