قال -عليه الصلاة والسلام-: ((اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله)) ().
كل إنسان يمتلك حواس, ولكن عنده حاسة مخفية اسمها: حاسة البصيرة والفراسة؛ فهذه الحاسّة لا يملكها إلا الإنسان المؤمن الذي فتح الله بصيرته، وبمقدار قوة البصيرة عند الإنسان وضعفها تتحدد سعادة الإنسان وسروره, أو عكسها، حزنه وتعاسته, فكلما كانت بصيرة الإنسان نافذة، وميدانها واسع، ومسافتها بعيدة، كان مردود السعادة عليه في الدنيا وفي الآخرة أعظم وأكبر وأجلّ وأدق.
والفراسة: نور يقذفه الله -عز وجل- في قلب المؤمن, ومن نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق, والفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب, فتُنيرها وتسعدها وتفرحها وتتفاءل بما هو خير وبما هو أولى وأفضل لتحصيلها على السعادة الطيّبة.
كن على يقين بالله, وكن صادقا مع الله, وكن مراقبا لله, وكن على ثقة بالله, وكن متوكلا على الله, تنال الفراسة التي لا تخطئ, والنور الذي لا ينطفئ, والسعادة التي لا تنتهي, فبمقدار توكلك على الله, وثقتك بالله, وتفاءلك بالخير من الله, تنجو من أحزان القلب, ومن هموم الدنيا, ومن تعاسة العيش.
فالفراسة إما أن تكون من مَلَكٍ يلقي في قلبك النور والسعادة, أو من شيطان يلقي على قلبك الظلام والحزن والكدر والتعاسة والفتور.
وصاحب الهمة والعزيمة: لا يتقيد بذلك, ولا يصرف إليه همته, وإذا سمع ما يسره استبشر, وقوي رجاؤه, وحسن ظنه, وحمد الله, وسأله إتمامه, واستعان به على حصوله, وإذا سمع ما يسوءه: استعاذ بالله ووثق به, وتوكل عليه, ولجأ إليه، والتجأ إلى التوحيد, وقال: اللهم لا طير إلا طيرك, ولا خير إلا خيرك, ولا إله غيرك, اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت, ولا يذهب بالسيئات إلا أنت, ولا حول ولا قوة إلا بك.
قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف، حيث قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}(). وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(). وأبو بكر في عمر -رضي الله عنهما-، حيث استخلفه. وامرأة فرعون حين قالت لزوجها عن موسى: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}().
وقال ابن القيم: ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أمورا عجيبة. وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما.
أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام، وأن كلب الجيش وحدته في الأموال. وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة.
ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم. وأن الظفر والنصر للمسلمين. وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا. فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وسمعته يقول ذلك. قال: فلما أكثروا علي. قلت: لا تكثروا. كتب الله –تعالى- في اللوح المحفوظ. أنهم مهزومون في هذه الكرة. وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطمعت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو.
وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
ولما طلب إلى الديار المصرية، وأريد قتله -بعدما أنضجت له القدور، وقلبت له الأمور- اجتمع أصحابه لوداعه. وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا. قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حبسي. ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رءوس الناس. سمعته يقول ذلك.
ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك. وقالوا: الآن بلغ مراده منك. فسجد لله شكرا وأطال. فقيل له: ما سبب هذه السجدة؟ فقال: هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن، وقرب زوال أمره. فقيل: متى هذا؟ فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته. فوقع الأمر مثل ما أخبر به. سمعت ذلك منه.
وقال مرة: يدخل عليّ أصحابي وغيرهم. فأرى في وجوههم وأعينهم أمورا لا أذكرها لهم.
فقلت له -أو غيري- لو أخبرتهم؟ فقال: أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة؟
وقلت له يوما: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح. فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة، أو قال: شهرا.
وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه، ولم ينطق به لساني.
وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل, ولم يعين أوقاتها, وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها.
وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته().
ومن اتقى الله, وصدق مع الله, وتفاءل في الخير, واجتنب المحرمات, وغض بصره عن الحرام، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالتقوى، وعمر ظاهره بالسنة، وأكل الحلال, واجتنب الحرام، لم تكد تخطئ له فراسة، وفتح الله بصيرته, وأسعده الله في الدنيا والآخرة, وفتح له أبواب الخير, والنور, والرزق, والسعادة, وطيّب الله حياته, ونورها بنور الفرح والسرور والنسمات والتيسير, وأغلق عليه أبواب الشرّ, وأبواب الحزن, وأبواب الكدر والضيق والتعاسىة والهمّ والغمّ والفقر.