اعلم أن حب الله هو أساس الراحة، وقاعدة السعادة، وعمود الحياة الطيبة، وسند الأمان في دار الخوف، وبريد الطوارئ في ساعة الأزمات، ونور العبد في ظلمات الحياة، إن أصيب بمكروه لجأ إلى حبيبه، وإن تعسرت عيشته طلب اليسر من حبيبه، وإن أحسّ بمؤامره وكّلَ أمره إلى حبيبه الذي يدفع عنه كل مكروه، وييسر له كل معسور، ويحميه من كل مؤامرة{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}()..
إن محبة الله ﻭﺇﺭاﺩﺓ ﻭﺟﻬﻪ، ﻭاﻟﺸﻮﻕ ﺇﻟﻰ ﻟﻘﺎﺋﻪ، هي ﺭﺃﺱ ﻣﺎﻝ اﻟﻌﺒﺪ، ﻭﻣﻼﻙ ﺃﻣﺮﻩ، ﻭﻗﻮاﻡ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﻄﻴﺒﺔ، ﻭﺃﺻﻞ ﺳﻌﺎﺩﺗﻪ ﻭﻓﻼﺣﻪ، ﻭﻧﻌﻴﻤﻪ ﻭﻗﺮﺓ ﻋﻴﻨﻪ، ﻭﻟﺬﻟﻚ خُلق، ﻭﺑﻪ ﺃُﻣﺮ، ﻭﺑﺬﻟﻚ ﺃﺭﺳﻠﺖ اﻟﺮﺳﻞ، ﻭﺃﻧﺰﻟﺖ اﻟﻜﺘﺐ، ﻭﻻ ﺻﻼﺡ ﻟﻠﻘﻠﺐ ﻭﻻ ﻧﻌﻴﻢ له ﺇﻻ ﺑﺄﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺭﻏﺒﺘﻪ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ -ﻋﺰ ﻭﺟﻞ- ﻭﺣﺪﻩ، وقلبه مخصوص بحبه، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻫﻮ ﻭﺣﺪﻩ محبوبه وﻣﺮﻏﻮﺑﻪ ﻭﻣﻄﻠﻮﺑﻪ ﻭﻣﺮاﺩﻩ{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ().
فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربها ومدبرها ورازقها، ومميتها ومحييها. فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن. فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التى يجدها المؤمن فى قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذى يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التى تناله أعلى من كل لذة. كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة فى مثل هذا، إنهم لفى عيش طيب.
وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له.
وقال آخر: مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها.
وقال آخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى ().
فيا حبيبي يا من تريد السعادة لقلبك، والراحة لنفسك، والانشراح لصدرك، أقول لك: إني أُعلمك كلمات اجعلهن نصب عينيك: حب الله هو السعادة والراحة لك في الدنيا، والفوز والظفر بالجنة في الآخرة، فإياك أن يخالط في قلبك حب الله حبا غير الله، وإياك أن يتزاحم في قلبك حبا مع حب الله، احذر فهذه مصيبة عظمى، وحياة ضنكا، وأحزان وهموم عليها لا تقوى..
قال ابن القيم: ولما سأل إبراهيمُ الولدَ، فأُعطِيَه، وتعلّق حبه بقلبه، فأخذ منه شعبة؛ غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره، فأمره بذبحه. وكان الأمر في المنام، ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاءً وامتحانًا. ولم يكن المقصود ذبح الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه، ليخلص القلب للربّ. فلما بادر الخليل إلى الامتثال، وقدّم محبة الله على محبة ولده؛ حصل المقصود، فرُفع الذبح. وفُدي بذبح عظيم()...ولما كان منصب الخلة وهو منصب لا يقبل المزاحمة بغير المحبوب وأخذ الولد شعبة من شعاب القلب, غار الحبيب على خليله أن يسكن غيره في شعبة من شعاب قلبه فأمره بذبحه, فلما أسلم للامتثال خرجت تلك المزاحمة وخلصت المحبة لأهلها فجاءته البشرى{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}() ليس المراد أن يعذب ولكن يبتلى ليهذب, ليس العجب من أمر الخليل بذبح الولد إنما العجب من مباشرة الذبح بيده, ولولا الاستغراق في حب الأمر لما هان مثل هذا المأمور فلذلك جعلت آثارها مثابة للقلوب تحن إليها أعظم من حنين الطيور إلى أوكارها().
وكذلك يعقوب -عليه السلام- يوم أن حب ابنه يوسف حبا كاد لا يعرف أيهما أقوى في الحب, أراد الله أن يختبر يعقوب لتظهر المحبة الأقوى في ميزان البلاء, فابتلاه بغيبة ابنه يوسف -عليه السلام- زمنا طويلا..
إذاً: عرفت أن القلب الذي يزاحم فيه حب الله مع حب غيره فإن مصيره إلى بلاء ومصائب وأحزان وهموم وغموم حتى يسقط أحدهما ويبقى الآخر.. فمن باب محبتي لك أوضحت لك هذا الطريق لئلا تصاب بمصائب تفجعك وهي نتيجة مخالطة حبك لغير الله مع حب الله..
قال ابن القيم -رحمه الله وطيب ثراه-: ﻭﻛﻞ ﻣﺤﺒﺔ ﻟﻐﻴﺮﻩ ﻓﻬﻲ ﻋﺬاﺏ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﻭﻭﺑﺎﻝ؟ ﻭﻟﻬﺬا ﻻ ﻳﻐﻔﺮ اﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺃﻥ ﻳﺸﺮﻙ ﺑﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﻤﺤﺒﺔ، ﻭﻳﻐﻔﺮ ﻣﺎ ﺩﻭﻥ ﺫﻟﻚ ﻟﻤﻦ ﻳﺸﺎء. ﻓﻤﺤﺒﺔ اﻟﺼﻮﺭ ﺗﻔﻮﺕ ﻣﺤﺒﺔ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺃﻧﻔﻊ ﻟﻠﻌﺒﺪ، ﺑﻞ ﺗﻔﻮﺕ ﻣﺤﺒﺔ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺻﻼﺡ ﻭﻻ ﻧﻌﻴﻢ، ﻭﻻ ﺣﻴﺎﺓ ﻧﺎﻓﻌﺔ ﺇﻻ ﺑﻤﺤﺒﺘﻪ ﻭﺣﺪﻩ، ﻓﻠﻴﺨﺘﺮ ﺇﺣﺪﻯ اﻟﻤﺤﺒﺘﻴﻦ ﻓﺈﻧﻬﻤﺎ ﻻ ﻳﺠﺘﻤﻌﺎﻥ ﻓﻲ اﻟﻘﻠﺐ ﻭﻻ ﻳﺮﺗﻔﻌﺎﻥ ﻣﻨﻪ، ﺑﻞ ﻣﻦ ﺃﻋﺮﺽ ﻋﻦ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻠﻪ ﻭﺫﻛﺮﻩ ﻭاﻟﺸﻮﻕ ﺇﻟﻰ ﻟﻘﺎﺋﻪ، اﺑﺘﻼﻩ ﺑﻤﺤﺒﺔ ﻏﻴﺮﻩ؛ ﻓﻴﻌﺬﺑﻪ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻓﻲ اﻟﺒﺮﺯﺥ ﻭﻓﻲ اﻵﺧﺮﺓ، ﻓﺈﻣﺎ ﺃﻥ ﻳﻌﺬﺑﻪ ﺑﻤﺤﺒﺔ اﻷﻭﺛﺎﻥ، ﺃﻭ ﺑﻤﺤﺒﺔ اﻟﺼﻠﺒﺎﻥ، ﺃﻭ ﺑﻤﺤﺒﺔ اﻟﻤﺮﺩاﻥ، ﺃﻭ ﺑﻤﺤﺒﺔ اﻟﻨﺴﻮاﻥ، ﺃﻭ ﺑﻤﺤﺒﺔ اﻟﻌﺸﺮاء ﻭاﻹﺧﻮاﻥ، ﺃﻭ ﺑﻤﺤﺒﺔ ﻣﺎ ﺩﻭﻥ ﺫﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺤﻘﺎﺭﺓ ﻭاﻟﻬﻮاﻥ، ﻓﺎﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﺒﺪ ﻣﺤﺒﻮﺑﻪ ﻛﺎﺋﻨﺎ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ، ﻛﻤﺎ ﻗﻴﻞ:
ﺃﻧﺖ اﻟﻘﺘﻴﻞ ﺑﻜﻞ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺒﺘﻪ ... ﻓﺎﺧﺘﺮ ﻟﻨﻔﺴﻚ ﻓﻲ اﻟﻬﻮﻯ ﻣﻦ ﺗﺼﻄﻔﻲ().
ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻠﻘﻠﻮﺏ ﺳﺮﻭﺭ ﻭﻻ ﻟﺬﺓ ﺗﺎﻣﺔ ﺇﻻ ﻓﻲ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻠﻪ، ﻭاﻟﺘﻘﺮﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻤﺎ ﻳﺤﺒﻪ، ﻭﻻ ﺗﻤﻜﻦ ﻣﺤﺒﺘﻪ ﺇﻻ ﺑﺎﻹﻋﺮاﺽ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻣﺤﺒﻮﺏ ﺳﻮاﻩ، ﻭﻣﻦ ﺃﺣﺐ اﻟﻠﻪ ﺃﻧﺲ ﺑﻪ، ﻭﻣﻦ ﺃﺣﺐ ﻏﻴﺮﻩ ﻋﺬﺏ ﺑﻪ.
ﻭﺃﻱ ﺣﻴﺎﺓ ﺃﻃﻴﺐ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺓ ﻣﻦ اﺟﺘﻤﻌﺖ ﻫﻤﻮﻣﻪ ﻛﻠﻬﺎ ﻭﺻﺎﺭﺕ ﻫﻤﺎ ﻭاﺣﺪا ﻓﻲ ﻣﺮﺿﺎﺓ اﻟﻠﻪ؟ ﻭﻟﻢ ﻳﺘﺸﻌﺐ ﻗﻠﺒﻪ، ﺑﻞ ﺃﻗﺒﻞ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ، ﻭاﺟﺘﻤﻌﺖ ﺇﺭاﺩﺗﻪ ﻭﺃﻓﻜﺎﺭﻩ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺘﻘﺴﻤﺔ ﺑﻜﻞ ﻭاﺩ ﻣﻨﻬﺎ ﺷﻌﺒﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻪ، ﻓﺼﺎﺭ ﺫﻛﺮﻩ ﺑﻤﺤﺒﻮﺑﻪ اﻷﻋﻠﻰ ﻭﺣﺒﻪ ﻭاﻟﺸﻮﻕ ﺇﻟﻰ ﻟﻘﺎﺋﻪ، ﻭاﻷﻧﺲ ﺑﻘﺮﺑﻪ ﻫﻮ اﻟﻤﺴﺘﻮﻟﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻋﻠﻴﻪ ﺗﺪﻭﺭ ﻫﻤﻮﻣﻪ ﻭﺇﺭاﺩﺗﻪ ﻭﻗﺼﻮﺩﻩ ﺑﻜﻞ ﺧﻄﺮاﺕ ﻗﻠﺒﻪ، ﻓﺈﻥ ﺳﻜﺖ ﺳﻜﺖ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻭﺇﻥ ﻧﻄﻖ ﻧﻄﻖ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻭﺇﻥ ﺳﻤﻊ ﻓﺒﻪ ﻳﺴﻤﻊ، ﻭﺇﻥ ﺃﺑﺼﺮ ﻓﺒﻪ ﻳﺒﺼﺮ، ﻭﺑﻪ ﻳﺒﻄﺶ، ﻭﺑﻪ ﻳﻤﺸﻲ، ﻭﺑﻪ ﻳﺴﻜﻦ، ﻭﺑﻪ ﻳﺤﻴﺎ، ﻭﺑﻪ ﻳﻤﻮﺕ، ﻭﺑﻪ ﻳﺒﻌﺚ()..
ﻭﻣﺘﻰ ﺗﻤﻜﻨﺖ اﻟﻤﺤﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻠﺐ ﻟﻢ ﺗﻨﺒﻌﺚ اﻟﺠﻮاﺭﺡ ﺇﻻ ﺇﻟﻰ ﻃﺎﻋﺔ اﻟﺮﺏ، ﻭﻫﺬا ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻹﻟﻬﻲ: ((ﻭﻻ ﻳﺰاﻝ ﻋﺒﺪﻯ ﻳﺘﻘﺮﺏ ﺇﻟﻲ ﺑﺎﻟﻨﻮاﻓﻞ ﺣﺘﻰ ﺃﺣﺒﻪ، ﻓﺈﺫا ﺃﺣﺒﺒﺘﻪ ﻛﻨﺖ ﺳﻤﻌﻪ اﻟﺬﻯ ﻳﺴﻤﻊ ﺑﻪ، ﻭﺑﺼﺮﻩ اﻟﺬﻯ ﻳﺒﺼﺮ ﺑﻪ, ﻭﻳﺪﻩ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﻄﺶ ﺑﻬﺎ, ﻭﺭﺟﻠﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺸﻰ ﺑﻬﺎ)) (). ﻭﻓﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻭاﻳﺎﺕ ﻓﺒﻲ ﻳﺴﻤﻊ ﻭﺑﻲ ﻳﺒﺼﺮ.
ﻭاﻟﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻠﻪ ﺇﺫا اﺳﺘﻐﺮﻕ ﺑﻬﺎ اﻟﻘﻠﺐ ﻭاﺳﺘﻮﻟﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻢ ﺗﻨﺒﻌﺚ اﻟﺠﻮاﺭﺡ ﺇﻻ ﺇﻟﻰ ﺭﺿﺎ اﻟﺮﺏ، ﻭﺳﺎﺭﺕ اﻟﻨﻔﺲ ﻣﻄﻤﺌﻨﺔ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﺑﺈﺭاﺩﺓ ﻣﻮﻻﻫﺎ ﻋﻦ ﻣﺮاﺩﻫﺎ ﻭﻫﻮاﻫﺎ، ﻭﻓﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ: ﻣﻦ ﺃﺣﺐ اﻟﻠﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺷﻲء ﻋﻨﺪﻩ ﺁﺛﺮ ﻣﻦ ﺭﺿﺎﻩ().
ﻛﻔﺎﻧﻲ ﻓﺨﺮا ﺃﻥ ﺃﻣﻮﺕ ﻣﺠﺎﻫﺪا ... ﻭﺣﺐ ﺇﻟﻬﻲ ﻗﺎﺋﺪﻱ ﻣﻨﺬ ﻧﺸﺄﺗﻲ..
ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﻫﺮﻳﺮﺓ -ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ-: اﻟﻘﻠﺐ ﻣﻠﻚ، ﻭاﻷﻋﻀﺎء ﺟﻨﻮﺩﻩ، ﻓﺈﻥ ﻃﺎﺏ اﻟﻤﻠﻚ، ﻃﺎﺑﺖ ﺟﻨﻮﺩﻩ، ﻭﺇﺫا ﺧﺒﺚ اﻟﻤﻠﻚ، ﺧﺒﺜﺖ ﺟﻨﻮﺩﻩ. ﻭﻟﻮ ﺃﻧﻌﻤﺖ اﻟﻨﻈﺮ ﻟﻌﻠﻤﺖ ﺃﻥ ﻓﺴﺎﺩ ﺭﻋﻴﺘﻚ ﺑﻔﺴﺎﺩﻙ، ﻭﺻﻼﺣﻬﺎ ﻭﺭﺷﺪﻫﺎ ﺑﺮﺷﺎﺩﻙ، ﻭﻟﻜﻨﻚ ﻫﻠﻜﺖ ﻭﺃﻫﻠﻜﺖ ﺭﻋﻴﺘﻚ، ﻭﺣﻤﻠﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻴﻦ اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ ﺧﻄﻴﺌﺘﻚ، ﻭﺃﺻﻞ ﺑﻠﻴﺘﻚ: ﺃﻧﻪ ﺧﻼ ﻣﻨﻚ ﺣﺐ اﻟﻠﻪ، ﻭﺣﺐ ﺫﻛﺮﻩ ﻭﻛﻼﻣﻪ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﻭﺻﻔﺎﺗﻪ، ﻭﺃﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮﻩ، ﻭﺃﻋﺮﺿﺖ ﻋﻨﻪ ﻭﺗﻌﻮﺿﺖ ﺑﺤﺐ ﻣﻦ ﺳﻮاﻩ ﻭاﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻴﻪ ﻣﻨﻪ ﻫﺬا ﻭﻗﺪ ﺳﻤﻌﺖ ﻣﺎ ﻗﺺ ﻋﻠﻴﻚ ﻣﻦ ﺇﻧﻜﺎﺭﻩ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺑﻨﻲ ﺇﺳﺮاﺋﻴﻞ اﺳﺘﺒﺪاﻟﻬﻢ ﻃﻌﺎﻣﺎ ﺑﻄﻌﺎﻡ ﺃﺩﻧﻰ ﻣﻨﻪ ﻓﺬﻣﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﻭﻧﻌﺎﻩ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻭﻗﺎﻝ: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}() فكيف بمن استبدل بمحبة خالقه وفاطره ووليه ومالك أمره, الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور ولا فرحة ولا نجاة إلا بأن يوحده في الحب, ويكون أحب إليه مما سواه, فانظر بالله بمن استبدلت؟ وبمحبة من تعوضت؟ رضيت لنفسك بالحبس في الحش, وقلوب محبيه تجول حول العرش, فلو أقبلت عليه وأعرضت عمن سواه لرأيت العجائب, ولأمنت من المتالف والمعاطب, أوما علمت أنه خص بالفوز والنعيم من أتاه بقلب سليم, أي: سليم مما سواه ليس فيه غير حبه واتباع رضاه..
قالت وبين ذنبي وذنبك عند الناس... كما بين عماي وعماك في القياس().
فإن أردت السعادة فعليك بتخليص قلبك من شوائب الحب القاتل وتصفيته وتنظيفه, ليبقى فيه الحب الصافي, والمنعش للقلب حياة الطمأنينة والراحة، واعرض قلبك على كلام محبوبك فستجد الراحة، لان الذي يحب يشتاق لكلام المحبوب فكذلك كلام الله وذكر الله فيه الحياة الهنية الطيبة.
ﻭﻫﺬﻩ اﻟﻤﺤﺒﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻮﺭ اﻟﻮﺟﻪ، ﻭﺗﺸﺮﺡ اﻟﺼﺪﺭ، ﻭﺗﺤﻴﻲ اﻟﻘﻠﺐ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﻣﺤﺒﺔ ﻛﻼﻡ اﻟﻠﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ ﻋﻼﻣﺔ ﺣﺐ اﻟﻠﻪ، ﻭﺇﺫا ﺃﺭﺩﺕ ﺃﻥ ﺗﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻙ ﻭﻋﻨﺪ ﻏﻴﺮﻙ ﻣﻦ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻠﻪ، ﻓﺎﻧﻈﺮ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻚ، ﻭاﻟﺘﺬاﺫﻙ ﺑﺴﻤﺎﻋﻪ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﻦ اﻟﺘﺬاﺫ ﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﻤﻼﻫﻲ ﻭاﻟﻐﻨﺎء اﻟﻤﻄﺮﺏ ﺑﺴﻤﺎﻋﻬﻢ، ﻓﺈﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥ ﻣﻦ ﺃﺣﺐ ﻣﺤﺒﻮﺑﺎ ﻛﺎﻥ ﻛﻼﻣﻪ ﻭﺣﺪﻳﺜﻪ ﺃﺣﺐ ﺷﻲء ﺇﻟﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﻗﻴﻞ: ﺇﻥ ﻛﻨﺖ ﺗﺰﻋﻢ ﺣﺒﻲ ﻓﻠﻢ ﻫﺠﺮﺕ ﻛﺘﺎﺑﻲ؟ ... ﺃﻣﺎ ﺗﺄﻣﻠﺖ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻟﺬﻳﺬ ﺧﻄﺎﺑﻲ..
ﻭﻗﺎﻝ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﻋﻔﺎﻥ: ﻟﻮ ﻃﻬﺮﺕ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ ﻟﻤﺎ ﺷﺒﻌﺖ ﻣﻦ ﻛﻼﻡ اﻟﻠﻪ. ﻭﻛﻴﻒ ﻳﺸﺒﻊ اﻟﻤﺤﺐ ﻣﻦ ﻛﻼﻡ ﻣﺤﺒﻮﺑﻪ ﻭﻫﻮ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﻄﻠﻮﺑﻪ؟().ﻭﻛﻠﻤﺎ اﺯﺩاﺩ ﺣﺐ اﻟﻤﺮء ﻟﺮﺑﻪ، اﺯﺩاﺩ ﺣﺒﺎ ﻟﻜﺘﺎﺑﻪ ﻭﻟﻜﺜﺮﺓ ﻗﺮاءﺗﻪ, وﻣﻦ ﺃﺣﺐ اﻟﻠﻪ ﺃﺣﺐ ﻛﻼﻡ اﻟﻠﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﺸﺒﻊ ﻣﻦ ﺗﻼﻭﺗﻪ..
ﺇﻥ ﺭﺟﻼ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﺃﺣﺐ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}()، ﻓﻜﺎﻥ ﻳﺮﺩﺩﻫﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺭﻛﻌﺔ، ﻭﻳﺘﻮﻟﻪ ﺑﺬﻛﺮﻫﺎ، ﻭﻳﻌﻴﺪﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻟﺴﺎﻧﻪ، ﻭﻳﺸﺠﻲ ﺑﻬﺎ ﻓﺆاﺩﻩ، ﻭﻳﺤﺮﻙ ﺑﻬﺎ ﻭﺟﺪاﻧﻪ، ﻗﺎﻝ ﻟﻪ -ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ-: ((ﺣﺒﻚ ﺇﻳﺎﻫﺎ ﺃﺩﺧﻠﻚ اﻟﺠﻨﺔ)) ()..
وهذا ﺭﺟل, ﺳﺄﻝ اﻟﻨﺒﻲ -ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ- ﻋﻦ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻓﻘﺎﻝ: ((ﻭﻣﺎ ﺃﻋﺪﺩﺕ ﻟﻬﺎ?. ﻗﺎﻝ: ﻻ ﺷﻲء ﺇﻻ ﺃﻧﻲ ﺃﺣﺐ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ. ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﻧﺖ ﻣﻊ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺒﺖ)). ﻗﺎﻝ ﺃﻧﺲ -ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ-: ﻓﻤﺎ ﻓﺮﺣﻨﺎ ﺑﺸﻲء ﻓﺮﺣﻨﺎ ﺑﻘﻮﻝ اﻟﻨﺒﻲ -ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ-: ﺃﻧﺖ ﻣﻊ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺒﺖ()..
وكل عبد أحب الله وجد في قلبه ما يؤنّسه ويسليه, والمستأنس بالله هو: الذي أحب كلامه، ورطب لسانه بذكره آناء الليل وأطراف النهار، والذي يتقرب إلى الله –تعالى- بالطاعات خالصةً لوجهه الكريم، فأولئك سيماهم في وجوههم، يشرقون نوراً وإيماناً، ويبدون أكثر اطمئناناً لقضاء الله وقدره لأنهم أحسنوا الظن بالله –تعالى- وعرفوا ما يسعد قلوبهم من لذة محبة الله، ولذة مناجاته، ولذة شوقهم إليه..
وصاحب القلب المحب لله هو الذي يحبه الله ويصدر أوامره للخلق أن يحبوه ويُوضع له القبول في الارض.
ﻭﺇﺫا ﺃﺣﺐ اﻟﻠﻪ ﻳﻮﻣﺎ ﻋﺒﺪﻩ ... ﺃﻟﻘﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺤﺒﺔ ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺱ..
ﻭﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ اﻟﻜﺘﺎﻧﻲ: ﺟﺮﺕ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﺤﺒﺔ ﺑﻤﻜﺔ ﺃﻳﺎﻡ اﻟﻤﻮﺳﻢ ﻓﺘﻜﻠﻢ اﻟﺸﻴﻮﺥ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻛﺎﻥ اﻟﺠﻨﻴﺪ ﺃﺻﻐﺮﻫﻢ ﺳﻨﺎ ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﻫﺎﺕ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻙ ﻳﺎ ﻋﺮاﻗﻲ!. ﻓﺄﻃﺮﻕ ﺭﺃﺳﻪ ﻭﺩﻣﻌﺖ ﻋﻴﻨﺎﻩ ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: ﻋﺒﺪ ﺫاﻫﺐ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ، ﻣﺘﺼﻞ ﺑﺬﻛﺮ ﺭﺑﻪ، ﻗﺎﺋﻢ ﺑﺄﺩاء ﺣﻘﻮﻗﻪ، ﻧﺎﻇﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻘﻠﺒﻪ، ﺃﺣﺮﻕ ﻗﻠﺒﻪ ﺃﻧﻮاﺭ ﻫﻮﻳﺘﻪ، ﻭﺻﻔﺎ ﺷﺮﺑﻪ ﻣﻦ ﻛﺄﺱ ﻭﺩﻩ، ﻓﺈﻥ ﺗﻜﻠﻢ ﻓﺒﺎﻟﻠﻪ، ﻭﺇﻥ ﻧﻄﻖ ﻓﻤﻦ اﻟﻠﻪ، ﻭﺇﻥ ﺗﺤﺮﻙ ﻓﺒﺄﻣﺮ اﻟﻠﻪ، ﻭﺇﻥ ﺳﻜﺖ ﻓﻤﻊ اﻟﻠﻪ، ﻓﻬﻮ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﻟﻠﻪ ﻭﻣﻊ اﻟﻠﻪ()..
ﻛﻦ ﻣﻦ ﺃﻭﻟﻴﺎء اﻟﻠﻪ ﻭﺃﺣﺒﺎﺋﻪ ﻟﺘﺴﻌﺪ، ﺇﻥ ﻣﻦ ﺃﺳﻌﺪ اﻟﺴﻌﺪاء ﺫاﻙ اﻟﺬﻱ ﺟﻌﻞ ﻫﺪﻓﻪ اﻷﺳﻤﻰ ﻭﻏﺎﻳﺘﻪ اﻟﻤﻨﺸﻮﺩﺓ ﺣﺐ اﻟﻠﻪ -ﻋﺰ ﻭﺟﻞ-، ﻭﻣﺎ ﺃﻟﻄﻒ ﻗﻮﻟﻪ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}() ﻗﺎﻝ ﺑﻌﻀﻬﻢ: ﻟﻴﺲ اﻟﻌﺠﺐ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: ﻳﺤﺒﻮﻧﻪ، ﻭﻟﻜﻦ اﻟﻌﺠﺐ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: ﻳﺤﺒﻬﻢ؛ ﻓﻬﻮ اﻟﺬﻱ ﺧﻠﻘﻬﻢ ﻭﺭﺯﻗﻬﻢ ﻭﺗﻮﻻﻫﻢ ﻭﺃﻋﻄﺎﻫﻢ، ﺛﻢ ﻳﺤﺒﻬﻢ{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}().
اﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺮﻣﺔ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ، ﻭﻫﻲ ﺗﺎﺝ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻪ: ﺭﺟﻞ ﻳﺤﺐ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ، ﻭﻳﺤﺒﻪ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ().
فلا إله إلا الله ما أجمل هذا الحبّ! يسعد صاحبه في الدنيا فتشرق عليه السعادة من كل جانب، فتنور شكله من الخارج، وتكسوه السكينة من الداخل، ويُغطى بالأمان، ويُشمُّ رائحة الطيب من بعيد، فيُعطى بطاقة الرضاء والقبول من المحبوب -جلّ جلاله-.