أسعد الناس حالا وأشرحهم صدرا، هو الذي يريد الآخرة، فلا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يحقد على أحد من إخوانه المسلمين وإنما عنده رسالة من الخير, ومثل سامية من البر والإحسان، يريد إيصال نفعه إلى الناس، فإن لم يستطع، كف عنهم أذاه.
إن الرفق واللين والصفح والعفو، صفات لا يجمعها إلا القلة القليلة من البشر، لأنها تكلف الإنسان هضم نفسه، وكبح طموحه، وإلجام اندفاعه وتطلعه.
ومما ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يكون سعيداً مع المسلمين أن يكون نقي القلب والسريرة، فلا سعادة إلا إذا أخرج العبد من قلبه الشحناء والبغضاء، والحسد واحتقار الناس، وآفات القلوب جميعها، وأسلم لله قلبه، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه غلاً على مسلم، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه الحسد أو البغضاء أو الشحناء، لقد بشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً بالجنة فانطلق مع هذا الرجل عبد الله بن عمرو بن العاص، وبات معه ثلاث ليالٍ ليرمق عبادته، وينظر أقواله وأفعاله، فلم يجد كثير صيام ولا قيام! ثم قال له في اليوم الثالث: ((إني كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة فكنت هو، فأخبرني عن أرجى عملٍ تعمله، فقال ذلك الصحابي -المبشر بالجنة وهو يمشي على وجه الأرض-: أما إنه ليس عندي كثير صيامٍ ولا قيام، ولكني لا أمسي وأصبح وفي قلبي غلٌ على مسلم)) ().
إن القلوب إذا تغيرت، والنفوس إذا تبدلت، أظهر الله ما في السرائر على الظواهر.
ومن أسر سريرة الخير أظهر الله للناس خيره، ومن أسر سريرة السوء والشر أظهر الله للناس عورته.
فأول ما ينبغي على الإنسان لكي يكون سعيداً مع الناس: أن ينزع من قلبه الحسد والبغضاء، وإياك أن تحتقر مسلماً لقلة ماله أو مركزه أو وظيفته، فالمسلمون جميعاً يجب أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وترضى لهم ما ترضى لنفسك، وينبغي أن تحسن بهم الظن كما ينبغي عليهم أن يحسنوا بك الظن أيضاً، فإذا سلم صدرك سلمت جوارحك، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) () ووالله لن يصلح القلب إلا بالسلامة لله -عز وجل- من أذية المؤمنين.
وإذا أردت السعادة مع الناس: فعليك أن تسلّم الناس من لسانك، فلا يسمعون منك إلا الطيب؛ لأن المسلم طيب سلّم لله لسانه وجنانه وجوارحه وأركانه.
والله ما ترى عينك إنساناً يرحم الناس إلا وجدته مرحوماً، وما ترى إنساناً يعفو عن زلات الناس ويتسع صدره لأخطاء الناس، إلا وجدته أكثر الناس انشراحاً، وأكثر الناس طمأنينة، وتجد لطف الله -عز وجل- به في نفسه وفي أهله، وحيثما توجه يجد من الله لطفاً، إن الله يرحم من عباده الرحماء، ويحب من عباده الرحماء، فإذا جئت في يوم من الأيام على زلة وخطيئة للمرأة تستطيع أن تؤذيها، وتستطيع أن تضيق عليها، وتستطيع أن تربيها، وإذا بك تتذكر قدرتك عليها، ثم تتذكر قدرة الله عليك، وتتذكر أنها كما أخطأت أنك أخطأت في الله أكثر مما أخطأت، وأنك إن رحمتها رحمك الله، فقلت في نفسك: عفوت عنها، وأنت تريد ما عند الله -عز وجل-، فنعم والله ما صنعت.
دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة فطأطأت له رءوسُ الكفار، وذلَّت له أعناقُ الأشرار، وأصبح يومَها المُلْكُ لله الواحد القهار! وقف -صلى الله عليه وسلم- يوم الثاني من الفتح وقريش تحته كلُّها، وجاء وقتُ الثأر، وجاء أخذ الحق والقصاص يوم سُفِكَت دماء أقاربه، يوم قُطِّعت أشلاء أصحابه وأحبابه! وقف -صلى الله عليه وسلم- على رءوسهم والماضي ماثل بين يديه بما فيه من الفجائع، وبما فيه من الأمور التي تُقِضُّ المضاجع! فوقف -صلى الله عليه وسلم- ساعة الثأر، وقال: ((يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟! -ما الذي يخطر ببالكم الآن بعد أن أعزني الله وأذلكم، ورفعني ووضعكم، وجبرني وكسركم؟! - فقالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمِ، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)) ().
الله أكبر ما أوسع صدور المؤمنين في الحلم والرحمة! الله أكبر ما أوسع قلب المؤمن! لأنه رجل كامل، والرجل الكامل: هو الذي يعفو ويصفح، ولذلك قال الله عن أهل العفو: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}().
فكن من الذين صبروا، ومن أهل الحظ العظيم بحسن الخلق والدفع بالتي هي أحسن.
إن الكثيرين من أهل الخصومات والعداوات والمواقف، ربما انطلقوا في البداية من تصرفٍ قاسٍ، أو كلمة شديدة من فلانٍ أو علان، فكرهوه وأبغضوه، ثم بدأ هذا البغض وهذه الكراهية تتحول أو تتفلسف في مواقف فكرية، ومخالفاتٍ منهجية وغير ذلك، فبعضهم إذا رآك فهششت له وبششت وتلطفت واستخدمت معه الواجب الشرعي في حسن الخلق، استخرجت ما في قلبه، وقلمت أظفار ضغنه{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}()أي: قاسي الخُلق، سيء المعاملة؛ لانفضوا من حولك وتركوك، فما بالك بغيره من الناس، حتى ولو كانوا دعاةً، ومصلحين، وعلماء، وطلبة علم، وقادة وغير ذلك، لو كانوا أصحاب غِلظة في المعاملة، وقسوة في الأقوال والأفعال؛ لانفض الناس من حولهم، فلنعمل على جمع كلمة المسلمين وتأليف قلوبهم، بحسن الخلق والتلطف، والدفع بالتي هي أحسن، ومن عصى الله –تعالى- فيك فإياك أن تعصي الله –تعالى- فيه، بل قل: لا أجد فيمن عصى الله –تعالى- فيَّ إلا أن أطيع الله –تعالى- فيه، فإن أساء الظن بي أحسنت به الظن، وإن جهل عليَّ حلمت عليه، وإن ظلمني عدلت معه، وإن هجرني سلمت عليه، وابتسمت في وجهه.
وإن الذي بيني وبين بنــــــــــــي أبي ... وبين بــــــني عــــــــمي لمختلفٌ جـــــــدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ ...وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا.