مهما أكمل العبد عبوديته لله -عز وجل- سعد في الدنيا والآخرة، ومهما نقصت عبوديته نقصت سعادته، ولذلك يخبرنا الصالحون كيف وجدوا السعادة التي ما ذقنا شيئاً منها؛ لضعف إيماننا ويقيننا وقلة توحيدنا, وانشغالنا بالدنيا الدنية, والملذات المنتهية, وعدم نظرنا إلى الحياة بعين حقيقية.
فقال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف().
وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب. قال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. وقال بعضهم: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين()..
قال ابن المنكدر: ما بقى من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة().
وقال بعضهم: والله! إنه لتمر بي أوقات يرقص فيها القلب طرباً.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-, كان يقول: ما يفعل بي أعدائي، أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله.
ولما سجن في القلعة نظر من خلف الباب وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}().
وكان يقول: لو أملك ملء القلعة ذهباً ما استطعت أن أكافئهم على ما قدموه لي من الخير.
وكان يقول: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
يصفه تلميذه –المحقق- ابن القيم فيقول: كنا إذا ضاقت بنا الأمور، واشتدت بنا الأحوال نلقاه، فما أن نراه وننظر إليه إلا ذهب كل ذلك عنا، وانقلب انشراحاً وفرحاً، ولقد كان من أطيب الناس عيشاً مع ما كان فيه من شدة العيش وخلاف الرفاهية، كانت نضرة النعيم تلوح على وجهه.
فالحمد لله الذي فتح لعباده باباً إلى جنته، فأتاهم من ريحها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، وتسعد حياتهم لطريقهم إليها, وهم ما يزالون في دار العمل، فـ شيخ الإسلام تجاوز الستين سنة وما وجد حياة الاستقرار حتى يتزوج؛ لأنه كان من سجن إلى سجن، ومن معركة إلى معركة، ومن مناظرة إلى مناظرة، وما سعى يوماً لأن يتزوج زوجة حسناء، أو يملك سرية حوراء، ولا داراً قوراء، ولا سعى خلف دينار ولا درهم , ولكنه مع كل هذا عاش عيشة السعداء في دنياه وآخرته.
وكان أيوب السختياني سيد شباب أهل البصرة من التابعين، كان إذا دخل السوق ورآه أهل السوق سبحوا وهللوا وكبروا، لما يرون على وجهه من أنوار العبادة، فمن أقبل على الله -عز وجل- أقبل الله -عز وجل- عليه، ومن أقبل الله -عز وجل- عليه أضاءت ساحاته واستنارت جوارحه().
وقال ابن القيم: إن في القلب شعث لا يلمه إلا: الإقبال على الله, وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأُنس به في خلوته, وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته, وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه, وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائها, وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب, وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له, ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا().
قال الحسن: تفقدوا الحلاوة في الصلاة وفي القرآن وفي الذكر, فإن وجدتموها فابشروا وأملوا, وإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق().