هذه بعض المواعظ اخترتها لك لتسلّي بها قلبك, ولتعرف أن الحياة ما هي إلا ساعة, وأن المقرّ والمستقر هو هناك.
هذا أبو بكر –الصديق-, يقول: أيها النّاس إني قد أقلتكم رأيكم، إنّي لست بخيركم فبايعوا خيركم، فقاموا إليه فقالوا: يا خليفة رسول الله!، أنت والله خير منّا، فقال: يا أيها الناس!، إن الناس دخلوا في الإسلام طوعا وكرها فهم عواد الله وجيران الله, فإن استطعتم أن لا يطلبنكم الله بشيء من ذمته فافعلوا, إنّ لي شيطانا يحضرني, فإذا رأيتموني فاجيبوني لا أمثل بأشعاركم وإنشادكم، يا أيها الناس!، تفقدوا ضرائب علمائكم، إنه لا ينبغي للحم نبت من سحت أن يدخل الجنة إلا وراعوني بأنصاركم، فإن استقمت فاتّبعوني, وإن زغت فقوموني, وإن أطعت الله فأطيعوني وإن عصيت الله فأعصوني ().
وهذا علي ابن أبي طالب, يقول: احفظوا عنّي خمسا فلو ركبتم الإبل في طلبهن لا تصيبوهنّ: لا يرجونّ عبد إلا ربّه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له().
وقال: إنّ أخوف ما أخاف عليكم: اتّباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ترحّلت مدبرة، وإنّ الآخرة قد ترحّلت مقبلة، ولكلّ واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدّنيا، وإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، ألا إنّ الفقيه كلّ الفقيه الّذي لا يقنّط النّاس من رحمة الله، ولا يؤمّنهم من عذاب الله، ولا يرخّص لهم في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبّر فيها، وقال: كونوا ينابيع العلم، مصابيح اللّيل، خلقي الثياب، جدد القلوب، تعرفون في ملكوت السموات، وتذكرون في الأرض.
وقال: أيّها الناس!، إنكم والله إن حننتم حنين الوالد الثّكلان، وجأرتم جؤار مبتلى الرّهبان، ثم خرجتم من الأموال والأولاد في التماس القرب إلى الله -عز وجل-، وابتغاء رضوانه، وارتفاع درجة عنده أو غفران سيئة، كان ذلك قليلا فيما يطلبون من جزيل ثوابه، والخوف من عقابه، والله لو سألتم إصلاح عيوبكم رغبة ورهبة إليه -سبحانه وتعالى- ثم عمّرتم عمر الدنيا مجدّين في الأعمال الصّالحة، ولم تبقوا شيئا من جهدكم لما دخلتم الجنّة بأعمالكم، ولكن برحمته -سبحانه وتعالى-، جعلنا الله وإياكم من التائبين أو العابدين ().
وكان يقول: تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنّما أهله الذين يعملون به، وسيأتي من بعدكم زمان ينكر فيه من الحقّ تسعة أعشاره، وصعد يوما المنبر فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وذكر الموت، فقال: عباد الله!، الموت ليس فيه فوت، ثم قال: فالنّجاء النّجاء، والرّجاء الرّجاء، وراءكم طالب حثيث، القبر, فاحذروا ضمّته ووحشته، ألا وإنّ القبر حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، ألا أنه يتكلّم في ذلك اليوم ثلاث مرات، فيقول: أنا بيت الظّلمة، أنا بيت الدّود، أنا بيت الوحشة، ألا وإنّ وراء ذلك يوما يشيب فيه الصّغير، ويسكر فيه الكبير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى، ولكنّ عذاب الله شديد، ألا وإنّ وراء ذلك ما هو أشدّ منه، نار حرّها شديد، وقعرها بعيد، وخازنها مالك، ثمّ بكى وبكى المسلمون حوله، ثم قال: ألا وإنّ وراء ذلك جنّة عرضها السّموات والأرض أعدّت للمتقين، أحلّنا الله وإياكم دار النّعيم، وأجارنا وإيّاكم من العذاب الأليم().
وهذا ابن الجوزي, يقول: لله در أقوام هجروا لذيذ المنام وتنصلوا لما نصبوا له الأقدام وانتصبوا للنصب في الظلام، يطلبون نصيباً من الإنعام، إذا جن الليل سهروا، وإذا جاء النهار اعتبروا، وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا، وإذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا ...يا منزل الأحباب: أين ساكنوك؟ يا بقاع الإخلاص: أين قاطنوك؟ يا مواطن الأبرار: أين عامروك؟ يا مواضع التهجد: أين زائروك؟ خلت والله الديار، وباد القوم، وارتحل أرباب السهر وبقى أهل النوم، واستبدل الزمان أكل الشهوات يا أهل الصوم.
لله در أقوام اجتهدوا في الطاعة، وتاجروا ربهم فربحت البضاعة، وبقى الثناء عليهم إلى قيام الساعة، لو رأيتهم في الظلام وقد لاح نورهم، وفي مناجاة الملك العلام وقد تم سرورهم فإذا تذكروا ذنباً قد مضى ضاقت صدورهم، وتقطعت قلوبهم أسفاً على ما حملت ظهورهم، وبعثوا رسالة الندم والدمع سطورهم, جال الفكر في قلوبهم فلاح صوابهم، وتذكروا فذكروا كذكر إعجابهم، وحاسبوا أنفسهم فحققوا حسابهم، ونادموا للمخافة فأصبحت دموعهم شرابهم، وترنموا بالقرآن فهو سمرهم مع أترابهم، وكلفوا بطاعة الإله فانتصبوا بحرابهم، وخدموه مبتذلين في خدمته شبابهم، فيا حسنهم وريح الأسحار قد حركت أثوابهم، وحملت قصص غصصهم ثم ردت جوابهم.
وكان يقول: يا هذا!: طهر قلبك من الشوائب، فالمحبة لا تلقى إلا في قلب طاهر، إما رأيت الزارع يتخير الأرض الطيبة ويسقيها ويرويها ثم يثيرها ويقلبها، وكلما رأى حجراً ألقاه، وكلما شاهد ما يؤذي نحاه، ثم يلقي فيها البذر ويتعاهدها من طوارق الأذى؟ وكذلك الحق -عز وجل- إذا أراد عبداً لوداده حصد من قلبه شوك الشرك، وطهره من أوساخ الرياء والشك، ثم يسقيه ماء التوبة والإنابة، ويثيره بمسحأة الخوف والإخلاص، فيستوي ظاهره وباطنه في التقى، ثم يلقي فيه بذر الهدى، فيثمر حب المحبة، فحينئذ تحمد المعرفة وطناً ظاهراً، وقوتاً طاهراً، فيسكن لب القلب، ويثبت به سلطانها في رستاق البذر، فيسري من بركاتها إلى العين ما يفضها عن سوى المحبوب، وإلى الكف ما يكفها عن المطلوب، وإلى اللسان ما يحبسه عن فضول الكلام، وإلى القدم ما يمنعه من سرعة الإقدام، فما زالت تلك النفس الطاهرة رائضها العلم، ونديمها الحلم، وسجنها الخوف، وميدانها الرجاء، وبستانها الخلوة، وكنزها القناعة, وبضاعتها اليقين، ومركبها الزهد، وطعامها الفكر، وحلواها الأنس، وهي مشغولة بتوطئة رحلها لرحيلها، وعين أملها ناظرة إلى سبيها، فإن صعد حافظاها، فالصحيفة نقية، وإن جاء البلاء فالنفس صابرة تقية، وإن أقبل الموت وجدها من الغش خلية، فيا طوبى لها إذا نوديت يوم القيامة.
ويقول: لله در نفس تطهرت من أجناس هواها، وتجلببت جلباب الصبر عند دنياها، وشغلها ما رأى قلبها عما رأت عيناها، وإن مالت إلى الدنيا نهاها نهاها، وإن مالت إلى الهوى شفاها شفاها، سهرت تطلب رضي المولى فرضى عنها وأرضاها، وقامت سوق المجاهدة على سوق هداها، فباعت حرصها بالقناعة فظفرت بغناها، وفوقت سهام العزائم إلى أهداف المحارم تبتغي علاها، ورمت نجائب الأسحار فساقها حادي الاستغفار إذ عناها، وقطعت بيداء الجد بآلة المستعد فبلغت مناها، فمن أجلها ينزل القطر وينبت الزرع من جزاها، ولولاها لم تثبت الأرض بأهل دنياها.
ويقول: لله در أقوام أقبلوا بالقلوب على مقلبها، وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها، وسلموها إذا باعوها إلى صاحبها، وأحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها، وسهروا الليالي كأنهم وكلوا برعي كواكبها، ونادوا أنفسهم صبرا على نار حطبها، ومقتوا الدنيا فما مالوا إلى ملاعبها، واشتاقوا إلى لقاء حبيبهم فاستطالوا مدة المقام بها...لله در أرواح تشتاق إلى روح قربة، وتلتذ عند ابتلائه بوقع ضربة، ويطول عليها الزمان شوقا إليه لحبه، إن سألت عن صفاتهم، فكل منهم مخلص لربه مجتهد في طاعته، خائف من عتبه، قائم على نفسه باستيفاء الحق منها على قلبه.
وقال: الأيام تنقضي حتى يواري جسمه في رمسه فمؤجل يلقي الردي في غيره، ومعجل يلقي الردي في نفسه، الدنيا لمن فهم، قنطرة العبور وسوق التزود ومتطهرة التنظيف وزرعت للحصاد، فأما للعاقل فهي مفرقة المجامع، ومحزنة الربوع، ومجربة الدموع، من نال من دنياه أمنيته أسقطت الأيام منها الإلف، اطلب فيها قدر بلغتك، وخذ مقدار حاجتك خصها خصوص المسافر في طلب علف بعيره، اطلب الدنيا قدر الحاجة، واطلب الآخرة على حسب الطاقة، هذا ولو أنك بلغت إلى الحمى التوكل لاستراح قلبك، وغذاك الله كما يغذي الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا().