صنائع المعروف وما أدراك ما صنائع المعروف!؟ التي غفر الله بها الذنوب، وستر بها العيوب وفرج بها الهموم والغموم والكروب, يا لها من مزية عظيمة يمتلكها صاحبها حين يصنع المعروف يخلص به لوجه الله –تعالى- فيلقى ثمرة ذلك المعروف في الدنيا قبل الآخرة, كمن كان له قلب رقيق، قلب إذا جاءه المهموم بهمه لا يتحمل أن تفيض عيناه، وكأنه صاحب شكواه, قلب يعيش أشجان المسلمين وأحزانهم، فإذا جاءه المكروب بكربه أو جاءه المهموم بهمه أو المغموم بغمه فتح له ذلك القلب الرقيق الرحيم؛ حتى تهون على صاحبه الدنيا فيشتري بها رحمة الله -جل جلاله- وجزاء الرحمة بخلق الله ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) () الراحمون أي: الذين أكرمهم الله بلين القلوب، والعطف على عباد الله، والشفقة على خلق الله -جل جلاله-، فليكن الإنسان رحيماً بعباد الله, يلقى أثر تلك الرحمة.
فإذا أتاك المهموم, أو صاحب الحاجة فاعلم أن له فضلاً عليك يوم اختارك من بين الناس لهمه وغمه, ولذلك قال ابن عباس: ما سألني صاحب حاجة حاجته إلا اعتقدت الفضل له أن اختارني من بين الناس(). اختارك من بين الناس لحزنه، واختارك من بين الناس لهمه وغمه، فأعطه من الحنان وأعطه من الرحمة والإحسان فوق ما يرجوه منك{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}() فالقلب النظيف الطيب كان سببا من أسباب جمع القلوب إليه, وعاش ذلك القلب بين القلوب سعيدا مرحا بين خلانه. فلا زال -صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى تبوك، قد بلغ به الجوع والتعب والإرهاق مبلغاً عظيماً، لكن في سبيل الله يهون، ومع السَّحَرِ ينام من التعب -صلى الله عليه وسلم- على دابَّتِه حتى يكاد يسقط, فيقترب منه أبو قتادة فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل، ثم يميل مَيلةً أخرى، فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من المَيلتين الأُولَيين، حتى كاد يسقط، فيدعمه بيده، فيرفع رأسه -صلى الله عليه وسلم- ويقول: من هذا؟ قال: أنا أبو قتادة -فيُكَافِئَه -صلى الله عليه وسلم- فبمَّ كافأه؟ - قال: ((حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة)) ().
يقول أهل العلم: فو الله مازال أبو قتادة محفوظاً بحفظ الله في أهله وذريته, ما أصابهم سوء حتى ماتوا؛ وهذا درس عظيم، فإن من حفظ الله, حفظه الله, فلا خوف عليه، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
فإذا رزق الله الإنسان إخلاص العمل ورزقه قلباً رقيقاً بعباد الله رحيماً رفيقاً؛ تهيأت له أبواب الخيرات, وتيسرت له سبل المكرمات, جعلني الله وإياك منهم.
اعمل الخير: تصدق, انفق في سبيل الله, تواضع, بر الوالدين, ارحم, تورع, ازهد, كن سباقا إلى الخير, اعمل معروفا واصنعه في وقته تجد ثمرته يوم أن تبحث عنه. هذا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- تقول له أمّ المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- يوم أن رأت منه عمل المعروف علمت أن صنعه هذا لن يتخلى عنه: ((كلا؛ والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق )) (). فإن المحسن، وقائم الليل، والكريم، ومقري الضيفان، والودود بالجيران، والبار بوالديه، وواصل الرحم لا يخزيه الله أبداً، حتى موته يأتي موتاً طبيعياً حبيباً.
فرج عن مكروب، وأعط محروما، وانصر مظلوما، وأطعم جائعا، واسق ظامئا، وعد مريضا، وشيع جنازة، وواس مصابا، وقُدْ أعمى، وأرشد تائها، وأكرم ضيفا، وبُر جارا، واحترم كبيرا، وارحم صغيرا، وابذل طعامك، وتصدق بدرهمك، وأحسن لفظك، وكف أذاك، فإنه معروف عند ما لا يضيع عنده معروفك.
إن هذه المعاني الجميلة، والصفات السامية، ما هي إلا صنائع معروف منك تجني ثمارها عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة.
فما بالك بامرأة سقت كلبا فدخلت الجنة, وثلاثة نفر أغلق عليهم باب الغار وسُدّ بصخرة عظيمة فتحقق الموت في ذلك الوقت؛ فأنجاهم من ذلك: طاعة والدين, وخوف من الجليل, ونماء صدقة لرجل فقير.
فازرع زرع الإحسان لتجني منه ثمرة إحسانك{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(). بلى! للإحسان جزاء, إحسان مثله. فالمنفق يبارك له في ماله! والبخيل الماسك يتلف عليه ماله! ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وينزل فيه ملكان يناديان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)) () ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار، وصلة الرحم تزيد في العمر)) ().
فيا أخي! ويا حبيبي! ستجد يوما من الأيام شدة, فسرعان ما تتبدل إلى فرج ويسر وعافية وكان ذلك سببه معروفٌ صنعته سابقا فبقي مدّخرا لك لوقت نزول الشدة عليك, وكم من بلية مقبلة دفعها معروف لمسلم بذلته، أو هم لمهموم فرجته، أو محتاج في ضائقة أعنته، ومن قاس هجير صنائع المعروف في الدنيا استظل في ظلال النعيم في الجنة، وخير الناس أتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم لذي رحمه، ومن يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لم يخالط الناس ولم يصبر على أذاهم{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم}().
أتظن أن الله يخزي أهل الصلوات الخمس؛ أهل القرآن؛ وأهل السنة؛ وأهل التسبيحات؛ والصيام؛ وقيام الليل, وأصحاب مجالس العلم, وأهل الصدق مع الله؟! لا والله, هذا نبي من أنبياء الله, وقع في مشكلة وشدة وكرب ما الله به عليم فما الذي أنجاه!؟ وما الذي أخرجه مما هو فيه من الهمّ والغمّ{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}() {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}() تسبيحه في وقتها أنقذته من الموت.
وهذا رجل آخر, قصّ خبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بينا رجل في فلاة من الأرض, إذ سمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان -والحديقة هي البستان- فأمطر ذلك السحاب فأفرغ ماءه في أرض ذلك الرجل الذي أسمى اسمه في السحاب, فتتبع ذلك الرجل ذلك الماء، -الذي نزل من السحاب- فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟. قال: فلان -بالاسم الذي سمع من السحابة-. فقال له: يا عبد الله! لم سألتني عن اسمي؟. قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، فما تصنع فيها؟ -يعني: ما الذي تصنعه حتى استحققت به أن يقال للملك: اسق حديقة فلان، فأتت السحابة وأمطرت الماء في حديقتك أنت؟!- قال: فما تصنع فيها؟!. قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثه)) (). هذا جزاء المعروف, معروفه أفاده وأبقى له جنته وبستانه.
وذكروا: أن رجلاً من الصالحين عرض له وزير فاجر -وزير من وزراء بني العباس- فحكم عليه بعذاب مهين، فلما كان الوزير ينام في الليل قبل أن ينفذ هذا الحكم كان ينتفض خائفاً من المنام، فينام، وإذا بهذا الرجل الذي حكم عليه الوزير جالس هناك –بالمنام-، كلما أراد الوزير أن يعمد إليه يتقي منه بقرص من الرغيف، وبعد ثلاث ليال ما كان ينام فيها، استدعى الرجل وقال: أسألك بالله!. قال: لماذا؟. قال: رأيت رؤيا أريدك أن تخبرني بها؟. قال: قل لي. قال: بعدما حكمت عليك وأودعتك السجن وأردت أن أنفذ عليك العقوبة رأيت في منامي أنك تمنعني برغيف، وإني أريد القبض عليك، فجعلت تمتنع مني، فأمرت جندي أن يقاتلوك، فجعلوا كلما ضربوك بشئ من سهام وغيرها تتقي الضرب برغيف في يدك، فلا يصل إليك شئ، فأعلمني ما قصة هذا الرغيف. قال: أما وقد سألتني فو الله ما نمت ليلة إلا وقرص خبز عند رأسي كانت تصنعه أمي وتجعله عند رأسي، فإذا أتى الصباح تصدقت به على المساكين، فلما كبرت وحضر أمي الموت، قالت: يا بني! لا تترك الوصية، قلت: ماذا؟. قالت: هذا الرغيف لا تتركه أبداً، اصنع رغيفاً واجعله عند رأسك وأعطه المساكين، فإن الله يمنعك. [فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء] قال: فو الله ما مرت عليَّ ليلة وأردت أن أنام إلا ووضعت هذا الرغيف عند رأسي وأعطيه المساكين، قال الوزير: والله لا تمسك مني عقوبة أبداً، وإني أحببتك, ثم عفا عنه().
وأفضل من هذا ما كان الجزاء والفضل في الآخرة فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة, فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) ().وفي رواية: ((ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )) ().
وفي هذا الحديث: إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل؛ فجزاء التفريج في الدنيا تفريج في الآخرة، ولا مساواة بين كرب الدنيا وكرب يوم القيامة؛ فإن شدائد الآخرة وأهوالها جسيمة عظيمة، فكان ادخار الله –تعالى- جزاء تفريج الكرب الدنيوية ليفرج بها عن عباده كرباتهم يوم القيامة حين يكون الإنسان أحوج ما يكون إلى فضل الله ورحمته، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء, وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.