{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}().
إن الناس طبائع وألوان, منهم الشقي والسعيد, ومنهم القوي والضعيف, ومنهم الشجاع والجبان, ومنهم العالم والجاهل, ومنهم المسلم والكافر, ومنهم المؤمن والعاصي, وهم كعالم الأشجار تماما منها الطويلة والقصيرة, الحلوة والمريرة, ذات الشوك والتي ليس بها شوك, فإذا كانت قيمتك كشجرة الموز, فلا تتغمص شكل التفاح, فإن الله جعل قيمتك موز, وهذه هي فطرت الله {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}() وكل واحد له ميزته يتميز بها, فعلي للقضاء، ومعاذ للعلم، وأبي للقرآن، وزيد للفرائض، وخالد للجهاد، وحسان للشعر، وقيس بن ثابت للخطابة{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}().
الناس أجناس, كل واحد له مواهبه وقدراته وذكاءه وعلمه وطاقاته وصنعاته, فلا تحاول سرقتها وتغمصها منه؛ فإن ذلك هو حزن الأحزان, وعذاب دائم, وقتل للموهبة, وفتك للإرادة, وضعف للشجاعة, فالناس مختلفون في حركاتهم وتصرفاتهم وقدراتهم, فلا يمكن لاثنين أن يتفقوا في صورة واحدة{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}().
فالتعيس هو الذي يتوقّ ليكون شخصا آخر مختلفا عنه شخصيته عقلا وجسدا, والحزين هو الذي دائم التفكير بحركات الناس وقدراتهم ومواهبهم وهم مختلفون عنه, واليآس هو الذي أراد تقليد غيره في الموهبه وما استطاع فظلّ يئِسا. أما السعيد وصاحب الخلق الرفيع فيكتفي بقدراته ومواهبه دون سرقة مواهب الناس فهو لا يترفع على مرءوسيه, وفي منصب المرؤوس لا يتملق رؤساءه, وهو ينظم مسلكه الشخصي ومواهبه فلا يسأل أحدا شيئا.
والتقليد شر مستطيل يفقد الإنسان شخصيته، ويقتل عليه مواهبه, ويفتت عليه إرادته, فتجد صاحبه يفكر بعقل غيره، ويسمع بأذن غيره، وينطق من فيّ غيره، ذيل إمعة{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}().
كذا يفعل حب التقليد بالضعفاء الأغبياء، يفقدهم تفكيرهم قبل أن يفقدهم قوتهم، ويسلب منهم سعادتهم وأفراحهم, ويرمي بهم في دموع الحزن والتفكير الطويل واليأس, ويوردهم البوار قبل أن يوردهم النار!.
التقليد: هو المحاكاة للآخرين, مع تقمص شخصياتهم, وانتحال صفاتهم, والذوبان فيهم، وسبب هذا التقليد هو الإعجاب والتعلق والميل الشديد، وهذا التقليد الغالي ليحمل بعضهم على التقليد في الحركات واللحظات، ونبرة الصوت والالتفات، ونحو ذلك، وهو وأد للشخصية وانتحار معنوي للذات. ويا لمعاناة هؤلاء من أنفسهم، وهم يعكسون اتجاههم، ويسيرون إلى الخلف!! فالواحد منهم ترك صوته لصوت الآخر، وهجر مشيته لمشية فلان، ليت هذا التقليد كان للصفات الممدوحة التي تثري العمر, وتضفي عليه هالة من السمو والرفعة، كالعلم والكرم والحلم ونحوها، لكنك تتفاجأ أن هؤلاء يقلدون في مخارج الحروف وطريقة الكلام وإشارة اليد!.
أنت شيء آخر لم يسبق لك في التاريخ مثيل ولن يأتي مثلك في الدنيا شبيه.
أنت مختلف تماما عن زيد وعمرو فلا تحشر نفسك في سرداب التقليد والمحاكاة والذوبان.
انطلق على هيئتك وسجيتك{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}() عش كما خلقك الله لا تغير صوتك، لا تبدل نبرتك، لا تخالف مشيتك، هذب نفسك بالوحي، ولكن لا تلغ وجودك وتقتل استقلالك.
أنت لك طعم خاص ولون خاص ونريدك أنت بلونك هذا وطعمك هذا؛ لأنك خلقت هكذا وعرفناك هكذا.
فإياك والتقليد الأعمى, والذوبان في شخصيات الغير, والسير على أثر الأقدام, فقد حزن أُناس, وشقي أُناس, وخسر أُناس بتقليدهم الأعمى{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}() فما هي العاقبة؟ وما هي النتيجة؟{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}().
مشى الطاووس باختيال ... فقلد شكل مشيته بنوه
فقال: علامَ تختالون؟ قالوا ... بدأت به ونحن مقلدوه
فخالف سيرك المعوّج وأعدل ... فإنا إن عدلت معدلوه
أما تدري أبانا كل فرع ... يجارى بالخطى من أدبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منّا ... على ما كان عودّه أبوه.
ومما يحُكى لنا في الطفولة: أن نمرا قال للثعلب: كن حارسي الشخصي, وإني الآن سأنام فإذا مرّ حيوان فأيقظني. فبينما هو نائم والثعلب بجانبه إذ مرّ بعيرٌ, فأيقظه وقال: هناك بعيرٌ قادم! فقفز النمر قفزةً أسقط فيها البعير ميتا, فقال للثعلب: كلْ حتى تشبع لإنك حارسي الشخصي. فأكل الثعلب وهو يتفكر في هذه الموهبة لدى النمر فأُعجب بها وأراد تطبيقها على القط. فبحث عن القطّ, وقال له: كن حارسي الشخصي, وإني الآن سأنام فإذا مرّ حيوان فأيقظني. فبينما هو نائم والقطُّ بجانبه إذ مرّ بعيرٌ, فأيقظه وقال: هناك بعيرٌ قادم! فقفز الثعلب قفزةً أراد أن يسقط بها البعير, ولكنّ البعير لطمه بإحدى يديه إلى جانب صخرة فتلطخ دمُ الثعلب وسقط ميتا, فأكل القطُّ من لحم الثعلب وهو يتفكر في غباء الثعلب وحماقته؛ وهذه حالة البعض من الناس من يتغمص شخصية غيره فيخسر مواهبه وقدراته ويسقط في وحل الغباء والحمق.