تعلمت من النملة –في ظل العقيدة- حين رأت في نفسها القوة والشجاعة على فعل أمر لربما صعب على الكثير فعله فعلمتني كيف أنظر إلى نفسي لأرى فيها العزة والقوة والشجاعة والنبل والفخر, وهذا درس لي ولك, انظر إلى نفسك بعين القوة والعزة لا تكن ذليلا خوارا جبانا ضعيفا، بل كن عليا شامخا بإيمانك قويا باعتقادك، ممّ تخاف وأنت تملك أعظم شيء وهو الإيمان؟ القوة التي تتحطم عليها قوى الفساد والمخاوف والأحزان، ممّ نخاف والله معنا ناصرنا ومؤيدنا؟ هذا موسى لما قاس أمر مجابهة فرعون بمقاييس البشر، قال: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}().
فجاءه الأمان من الله، إن الله معك، إن الله ناصرك، إن الله مؤيدك وحافظك{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}() ما الذي يخيفك ياموسى والله معك?{لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى}().
هكذا الإسلام يريد المؤمن أن يعيش في عزة وإباء وكرامة، لا ينزل مع الظالمين أو الضالين، ولا يسقط في التفاهات، بل يترفع عن المغريات، ويحفظ نفسه من المستنقعات الدنيوية الفاسدة.
هكذا الإيمان يجعلك في موقف العزة التي لا تقبل شكا ولا ترددا، لأن المؤمن يأوي إلى ركن شديد، وإلى منهج صادق واضح جلي سديد، وإلى فعل حميد.
إن كنت مؤمنا بالله حقا فأنت القوة التي لا تُغلب، والعزة التي لا تُذل، والجند التي تُهزم، والسعادة التي لا تنتهي، والأمان الذي لا يذهب.
الإيمان هو الذي جعل إبراهيم -عليه السلام- قويا شامخا لا يهتز لرياح الشرك والوثنية، كالجبل لا تحركه زلازل الفساد، في موقف يصعب على اللسان الصدع بالحق، ليقول للكثرة الكافرة التي أججت نارا كالجبال لتحرقه بها، يقول لهم وهو الذي قيد وربط ليرمى فيها، يقول لهم في كل عزة وشجاعة وثبات: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}().
كذلك يكون المؤمن معتزا، يرى أنه القوي وأعداؤه الضعفاء، لا يتردد ولا يداخله الشك، ولا تهزه ألوان الأذى ولا التهديد، كل ذلك إذا تغلغل الإيمان فيه.
ها هو فرعون يهدد السحرة الذين انقلبوا عليه بين عشية وضحاها، فقال يهددهم: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}().
فماذا كان جواب أهل العزة الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فانقلبوا منذ أن كانوا من قبل سحرة، انقلبوا إلى أعزاء بالإيمان، فماذا قالوا؟{قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا}().
هكذا كن يامن تطلب السعادة عزيزا بإيمانك, عميقا بإخلاصك, فبالإيمان يصعد المؤمن في السماء علوا ورفعة وعزة، ولكن حينما يتنازل المؤمن عن إيمانه، وحينما يخدش إيمانه ويجرحه ويرتكب ما يقدح في إيمانه فهو يتنازل عن عليائه وعزته بقدر ما يرتكب من خدوش أو تكسير في جدار إيمانه{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}().
إنني أُحدثك عن عزة ليست لباسا يلبس، وعن عزة ليست قصورا ودورا تسكن، وليست أنهارا تجري وتشق، وليست مناصب ومراتب وأحساب وأنساب، إنما أحدثك عن عزة هي مرتبطة بمن له العزة وحده لا شريك له، ممن استمدت العزة والقوة منه وحده العزيز الجبار -جل جلاله-، فهو العزيز يعطي العزة، وهو القوي يعطي القوة، ومن طلبها من غيره ذل وانكسر وهان وحقّر وعاش أبد دهره في ظلمات الحزن، وفي ضيق واختناق{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
أخي –المبارك- ديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم نلبس إلا رديء الثياب، وديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم يكن لنا في الأرصدة ريال ولا دينار ولا درهم، يعلمنا أننا الأعزاء وإن لم ننل شيئا من المناصب والرتب، ديننا يعلمنا أننا السعداء حتى وإن كنا غارقين في الحزن، ديننا يعلمنا أننا الأغنياء حتى وإن كنا في زمن الفقر، ديننا يعلمنا أننا المنصورين في المعارك حتى وإن كنا قلة قليلة وضعف شديد، ويعلمنا أننا الأعزاء وإن لم نرتبط بأنساب وأحساب يفاخر بها أهل الجاهلية، ديننا يعلمنا أن العزة فيمن تعلق بالعزيز وحده لا شريك له؛ فربنا يعلمنا الإقدام والثبات في مواطن اليأس، والسعداء في موطن الحزن موقنين أن الله العزيز القوي معنا{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}().
{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ}().
لماذا الخوف والضعف والجبن وربنا يقول: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى}{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}().
كن قويا شجاعا مقداما تخافك الوحوش والسباع وحتى الجن, فهم إذا رأوا الواحد يرتجف ركبوه، وإذا رأوه جبلا صامدا قويا بدين الله لا يخاف إلا من الله فروا منه، وتنادوا في الشعاب والوديان: هناك مؤمن فروا منه، لا يقدرون عليه أبدا، فكن قويا بالله -عز وجل-.
فأنت –ياحبيبي- الله خلقك في أحسن تقويم, وأسجد لك ملائكته, وهي في خدمتك ليلا ونهارا, منهم من يصلي عليك, ومنهم من يستغفر لك، وسخر لك كل ما في الأرض لتسعد وتعتز ولا تذل ولا تخضع لغيره ولا تضعف لسواه ولا تنكسر إلا له. ففتش عن نفسك الأصلية واعرف قدرها وتسمّ بهمة العزة بإيمانك بالله -جل في علاه-.
ولكن اعلم ان هناك بشرا ضُعفاء جُبناء ويظنون أن العزة كائنة في الهيئات والأشكال والأنساب والقوى والعدد, يظنونها على الماديات قائمة، وعلى سلالات الأنساب متكئة؛ فأنت العزيز الكريم بشرط أن تكون قويا غنيا عرق النسب بإيمانك وتقواك.
إن أي عزة تقوم على غير الإيمان بالله فهي عزة واهية باطلة منقضية فانية متصدعة، مئالها إلى خراب, وضعف وشتات, وإن أي رفعة ومنعة وقمة وعلو تكون بغير الله، فهي زائلة عما قليل تحول وتزول وتنتهي، حتى وإن استمرت في بغي وطغيان، ولذا أبشرك بسرعة تصدع العزة الباطلة مهما علا صاحبها وتكبر فإن مصيره الهلاك ومصيره العقاب والبوار والدمار، لماذا يكون مصيره هكذا؟ لأنها عزة قامت وعلت على غير حق، والله لا يصلح عمل المفسدين{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ().
وليس المقصود بهذا الهتاف المشجع للضمير أن يغتر العبد أو يعجب بنفسه ويتكبر ويتجبر على إخوانه، فيستخدم قوته على الضعفاء، ويستخدم غناه على الفقراء، ويتبختر بصحته أمام المرضى، لا, إنما المقصود أن يعلم أنه في الخليقة شيء آخر لا يشبهه أحد، فيحرص على أن يرفع قيمته، ويغلي ثمنه بعمله الصالح، وبعلمه ونبوغه، واطلاعه ومثابرته وبحثه وتثقيف عقله، وصقل ذهنه، وإشعال الطموح في روحه، والنبل في نفسه؛ لتكون قيمته عالية وغالية, شجاعا مقداما, يشرب كل ذلك من كأس إيمانه وعقيدته.
لا تسقني ماء الحياة بذلة... بل اسقني بالعز كأس العلقم.