قد بلغ فضل الله على الناس من السعة, وبلغت نعمته عليهم من السبوغ, ما لو أن أخسهم حظا, وأقلهم منه نصيبا, وأضعفهم علما, وأعجزهم عملا, وأعياهم لسانا, بلغ من الشكر له, والثناء عليه بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته، ما بلغ له منه أعظمهم حظا, وأوفرهم نصيبا, وأفضلهم علما, وأقواهم عملا, وأبسطهم لسانا، لكان عما استوجب الله عليه مقصرا, وعن بلوغ غاية الشكر بعيدا.
ومن أخذ بحظه من شكر الله, وحمده, ومعرفة نعمه, والثناء عليه والتحميد له، فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله القربة عنده والوسيلة إليه, والمزيد فيما شكره عليه من خير الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.
إن من وفق للشكر فقد حصل له نعيم الدنيا والآخرة يعيش حميدا, قائما بأمر الله, ويموت سعيدا, خالدا في ثواب الله, ومن كفر أوشك أن يحل عليه عذاب الله .
فهذا الإله العظيم الذي هذا عطاؤه، وهذا فضله، وهذا منه، قلبك لا يخفق إلا بإذنه، وبصرك لا ينطلق إلا بإذنه، وسمعك لا يصيح إلا بإذنه، ورجلك لا تمشي إلا بإذنه، ويدك لا تبطش إلا بإذنه، وفمك لا يمضغ إلا بإذنه، وكل جسمك إنما يتحرك بإذنه!! أليس حقا عليك أن تقول له: شكرا يا رب؟! هذا الذي أعطاك ويرضى منك بهذه الكلمة، متى خرجت من قلب صادق((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها))().
وهذه الكلمة التي تبذلها لكل إنسان ممن يستحق ومن لا يستحق، ألا ترى حقا عليك أن تبذلها لهذا الخالق العظيم الحكيم المبدع العظيم، فتقول له وأنت تعفر وجهك بالتراب، وتقول له وأنت ساجد: شكرا لك يا رب! على جميل عطائك، أصححت جسمي على حين أن المستشفيات ملأى بالمرضى، وأحييتني على حين أني قد سرت خلف أعداد كبيرة من الجنائز, وأودعتهم إلى القبور، وعافيتني إذا ابتليت غيري، وأغنيتني إذ أفقرت غيري، ورزقتني سمعا وبصرا وفؤادا، وأنت خير الرازقين، فشكرا لك يا رب! من أعماق قلبي، شكرا لك! على هذا العطاء الذي لا ينتهي، وشكرا لك! على هذه المنن التي لست لها بأهل، ولكنك أنت يا رب أهل التقوى وأهل المغفرة.
تذكر ضعفك وفقرك وعجزك، فأنت مسكين وضعيف، ولولا أن الله -عز وجل- قد أطلق البدن للزمت الأرض وللزمت الفراش، فإياك أن يغرك مركزك، إياك أن يغرك منصبك، إياك أن يغرك جاهك ووجاهتك، فأنت ضعيف أيها المسكين! تحمل البصاق في فمك، وتحمل المخاط في أنفك، وتحمل العرق تحت إبطيك، وتحمل البول في مثانتك، وتحمل النجاسة في بطنك، وتمسح عن نفسك النجاسة بيدك كل يوم مرة أو مرتين{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}().
تجد الكثيرين يكتبون كلمات العرفان لهذا الطبيب، وربما نشروها في المجلات والجرائد، أو لمن تعاون معهم، أو لمن تسبب في نقلهم إلى مستشفى من المستشفيات، أو لمن واساهم أو لغير ذلك، لكن ربما ينسى الكثيرون توجيه الشكر الخالص للمنعم الأول وهو الله -جل وعلا-. من الذي وجه قلوب الناس إليك حتى أعانوك وساعدوك؟! من الذي حرك همة الطبيب حتى عني بك وأبدى وسعه في علاجك؟! من الذي جعل العلاج شافيا ونافعا؟! وربما تناول إنسان علاجا فكان فيه حتفه، وكان سبب هلاكه، فمن الذي جعل هذا العلاج بلسما وترياقا شافيا لك من مرضك؟! إنه الله، فلابد أن توجه الشكر له أولاً قبل أن تشكر المخلوقين.
إنك في نعم عميمة, وأفضال جسيمة، ولكنك لا تدري، تعيش مهموما مغموما حزينا كئيبا، وعندك الخبز الدافئ، والماء البارد، والنوم الهانئ، والعافية الوارفة، تتفكر في المفقود, ولا تشكر على الموجود، تنزعج من خسارة مالية, وعندك مفتاح السعادة، وقناطير مقنطرة من الخير والمواهب والنعم والأشياء، فكر واشكر{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}(). فكر في نفسك، وأهلك، وبيتك، وعملك، وعافيتك، وأصدقائك، والدنيا من حولك{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها}().
هل حمدت الله وشكرته في يوم أصبح عندك قوت يومك, وصحة في بدنك, وأمن في عيشك? (( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافا في بدنه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها))().
والقوت هو مقدار الضرورة، بحيث لا تجوع ولا تفتر. والكفاف هو ما كفاك عن سؤال الناس وكان بمقدار كفايتك وحاجتك، فإذا حصلت هذا فاحمد الله، فقد كان خير خلق الله – عليه الصلاة والسلام- يسأل ربه هذا، فإن المال إذا زاد وكثر يؤدي إلى البطر، والحاجة إذا لم تتيسر يتشوش البال، فإذا رزقت الكفاف وكان عندك ما يكفيك فاحمد الله واقنع بما قسم الله.
هي القناعة فالزمها تعش ملــــــــكا ... لو لـــــــم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن.
شكا بعضهم فقره إلى بعض أرباب البصائر وأظهر شدة اغتمامه به فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟. فقال: لا. فقال أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم؟. فقال: لا. فقال: أيسرك أن أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفا؟. فقال: لا. فقال: أيسرك أنك مجنون ولك عشر آلاف درهم؟. فقال: لا. فقال: أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفا..
دخل ابن السماك على بعض الخلفاء وبيده كوز ماء يشربه فقال له: عظني. فقال: لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان، فهل كنت تعطيه?! قال: نعم!. فقال لو لم تعط الماء إلا بملكك كله فهل كنت تتركه?!قال: نعم! قال فلا تفرح بملك لا يساوي شربة ماء(). إذاً: شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها.
فكر واشكر نعم الله عليك وإن تذكر نعم الله عليك تلاحظ أنها تغمرك من فوقك ومن تحت قدميك{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا}()صحة في بدن، أمن في وطن، غذاء وكساء، وهواء وماء، لديك الدنيا وأنت ما تشعر، تملك الحياة وأنت لا تعلم{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}() عندك عينان، ولسان وشفتان، ويدان ورجلان{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}() هل هي مسألة سهلة أن تمشي على قدميك، وقد بترت أقدام؟! وأن تعتمد على ساقيك، وقد قطعت سوق؟! أحقيق أن تنام ملء عينيك وقد أطار الألم نوم الكثير؟! وأن تملأ معدتك من الطعام الشهي وأن تكرع من الماء البارد وهناك من عكر عليه().
لا إله إلا الله نعم تتجلى ليلا نهارا ونحن عنها تائهون ولو وفقنا للشكر لزادت وكثرت.