قال ابن القيم: فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها، وحياة القلوب، ولذة النفوس، ورياض القلوب، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والمنادي بالمساء والصباح: يا أهل الفلاح، حي على الفلاح، نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}()().
إن القرآن الكريم كلام الله -عزَّ وجلَّ-، فلا يفهمه ولا يجد طعمه إلا من آمن به، ولا يلتذذ به وبقراءته وتدبره إلا من شهد أنه كلام الله، تكلم به حقاً، وأنزله على رسوله وحياً.
فهو كتاب جليل القدر عظيم النفع، حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكم مفصل, أصدق الكلام وأحسنه, وأكمله وأوصفه, وأحلاه وأعذبه, وأجمله وأحسنه.
فمن أسباب السعادة وانشراح الصدر, وسياحة النفس, وتغذية الروح, قراءة كتاب الله بتدبر وتمعن وتأمل، فإن الله وصف كتابه بأنه هدى ونور وشفاء لما في الصدور، ووصفه بأنه رحمة{قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ}().
وقال أحد الصالحين: أحسست بغمّ لا يعلمه إلا الله، وبهمّ مقيم، فأخذت المصحف وبقيت أتلو، فزال عني -والله- فجأة هذا الغمّ، وأبدلني الله سرورا وحبورا مكان ذلك الكدر{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}()().
وقال عثمان –رضي الله عنه-: أما والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا().
وكيف يشبع المحِبُّ من كلام محبوبه، وهو غاية مطلوبه! وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا لعبد الله بن مسعود: ((اقرأ عليّ، فقال: أقرأ عليك، وعليك أنزِل؟ فقال: إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري.
فاستفتح، وقرأ سورة النساء، حتّى إذا بلغ قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}() قال: حسبك. فرفع رأسه، فإذا عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرِفان من البكاء)) ().
قال بعض الحكماء: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله --صلى الله عليه وسلم- يتلوه على أصحابه, ثم رفعت إلى مقام فوقه كنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل -عليه السلام- يلقيه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم جاء الله بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلم به, فعندها وجدت له لذة ونعيما لا أصبر عنه().
وقال أحد الكفرة: واللات والعزى، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه().
فاختر لنفسك وقتا مناسبا لتلاوة القرآن, واقرأه بتمعن, وتدبر, وتأمل, وتفكر, وتأنّ, وهدوء, وتكرار, وترتيل, وتحبير الصوت, وتباك, وحضور القلب معك, والعقل معك, والجوارح معك, ستلاحظ ذلك الشعور بالأُنس مع الله –تعالى-, وبتلك السعادة والسرور, وبتلك البرودة من سكون القلب مع القرآن, والله لذة لا يعادلها شيء من متاع الدنيا, وطعم ليس له شبيه, والله حتى العسل لم تصل حلاوته إلى تلك المرتبة, إنه شيء لا يُوصف.