لعلك تكون في سعادة, وفي أمن, وفي راحة, المال عندك, والخير بين يديك؛ فتحرم السعادة والسرور طوال حياتك, وتسلب الأمن طوال عمرك؛ والسبب كله كلمة في وجه الوالد, كلمة في وجه الأُم{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}()حرفان يخرجان من لسانك, يُدفعان بهواء فاسد في وجه والديك يحرمانك سعادتك.
إن مشكلة العقوق محق للبركة, وضيق في الرزق, وسبب للمصائب, وضيق في الصدر, وحزن في القلب يدوم طويلا, فالويل كل الويل لعاق والديه, والخزي كل الخزي لمن ماتا غضابا عليه, أف له هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه, أتبع الآن تفريطك في حقهما أنينا وزفيرا{ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}().
انتبه! وكن على حذر! فأنت الآن لديك مكيال تكيل به برك بوالديك, فإن أنقصته وبخسته سيُكال لك يوما ما من أولادك, وإن أتمتته ووفيته سيُوفى لك عن الكيل والوزن من أولادك وفي الحديث: ((بروا آباءكم تبركم أبناءكم))().
ومما يروى لنا: أن ولدا عاقا أتى إليه أبوه يطلب منه معروفا, فتطاول عليه هذا الولد بالسب والضرب حتى أمسك بقدميه وهو ملقى على ظهره, وظل يزحف به الأرض حتى وصل به إلى عتبة باب الدار ليرمي به خارج الدار, فوجد أحد الجيران فلمْ يكمل وعاد إلى الداخل، وبعد هذه الإهانة خرج الأب وهو يبكي... وتمر الأيام... ويكبر الابن, ويكبر أبناؤه, ويأتي ابن له يعاتبه في أمر من الأمور، وإذا بهذا الابن يتطاول عليه بالسب والضرب, ثم يمسك بقدميه وهو مستلق على ظهره ليسحبه خارج البيت حتى وصل إلى عتبة الباب وهنا قال الأب لابنه: كفى هذا يا بني لقد وصلت بأبي إلى هنا.. سبحان الله!! ما أسرع الجزاء!, وكما تُدين تُدان, ومكيال الظلم لا ينقص.
عقوق الوالدين معصية فظيعة، وجريمة شنيعة، تقشعر لها الأبدان، ويندى لها الجبينُ، أنكرها حتى الجاهليون، واليهود والنصارى في شرائعهم؛ ولذلك يقشعر جلد المؤمن يوم يرى الابن كلما شب وقوي، وكلما تعمر؛ تغمط حق والديه، يوم أذهبا العمر والشباب وزهرة الحياة في تربية هذا الابن، سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، فلما كبر هو وضعفا هما، ودَنَيا من القبر وأصبحا منه قاب قوسين، أو أدنى؛ أنكر جميلهما وقابلهما بالغلظة، وجحد حقيهما، وجعلهما في مكان من الذلة والصغار لا يعلمه إلا الله؛ لذلك قرن الله حقَّه بحقهما، وجعل من لوازم العبودية برَّ الوالدين وصلةَ الرحم، يقول -جل ذكره-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}() وانظر إلى هذه الصورة العجيبة، التي صورها القرآن: صورة الأب وهو محدودب الظهر، قليل الصبر، شاب رأسه وشابت لحيته، وصورة الأم وهي جعداء الشعر، شمطاء الرأس، قد دنت من القبر، وأصبحت تتلهب على شبابها وفتوتها وصباها الذي أنفقته في تربية هذا الابن؛ فلما ترعرع وقوي ظهره واشتد ساعده؛ كان نكالاً وغضباً ونكداً على والديه{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} حتى كلمة أفٍّ من سمح لك؟ ومن عفا عنك أن تقول لهما أف؟!! فقل لي بالله أيهما أعظم: كلمة أف، أم الذين جحدوا حقوقَ الوالدين، ولعنوا الوالدين، وعقوهما وقاطعوهما، وجعلوا جزاءهما السب والشتم والغلظة والنكال والقطيعة؛ حتى وجد في المجتمع من يعيش في الفلل الزاهية البهية، وفي الشقق الضخمة، ويركب المراكب الوطية، ويأكل الموائد الشهية، ووالداه في فقر مدقع، وفي حاجة ملحة، وفي ضنك لا يعلمه إلا الله.
والله ثم والله وُجد ممن أعرفهم يقابلون الوالدين بالضرب والشتم واللعن –ناهيك عن الطرد والقطع والفصل- والله أمام عيني شخص يضرب أباه الكبير في السن, ويدفع بأمه العجوز المسكينة, ظلم وأيُّ ظلم!؟.
يا من تعقُّ الوالدين! تطلب الجنة بزعمك، وهي تحت أقدام أمك، حملتك في بطنها تسعة أشهر، كأنها تسع حجج، وكابدت عند وضعك ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثديها لبنا وأطارت لأجلك وسنا، وغسلت بيمينها عنك الأذى، وآثرتك علي نفسها بالغذا، وصيرت لك حجرها مهداً، وأنالتك إحسانا ورفدا، فإن أصابك مرض أو شكاية، أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والنحيب، وبذلت مالها للطبيب، ولو خيرت بين حياتك وموتها، لآثرت حياتك بأعلى صوتها, هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مرارا، فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا، فلما احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون الأشياء عليك، فشبعت وهي جائعة، ورويت وهي ضائعة، وقدمت عليها أهلك وأولادك في الإحسان، وقابلت أياديها بالنسيان، وعب لديك أمرها وهو يسير، وطال عمرها وهو قصير، وهجرتها ومالها سواك من نصير، هذا ومولاك قد نهاك عن التأفيف، وعاتبك في حقها بعتاب لطيف، وستعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أخراك بالبعد من رب العالمين، يناديك بلسان التوبيخ والتهديد: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}().
لأُمك حق لو علمت كبير ... كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي ... لها من جواها أنةً وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة ... فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها ... وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسها ... ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها ... حنوا وإشفاقا وأنت صغير
فآها لذي عقل ويتبع الهوي ... وآها لأعمي القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو إليه فقير.