علمتني النملة -في ظل العقيدة- أن السعادة لا تأتي من تلقاء نفسها بل تحتاج إلى مسارعة ومسابقة ومثابرة وتضحية, فلك أن تنظر في الأوامر التي تدلنا على سعادتنا{سَابِقُوا}(){وَسَارِعُواْ}(){يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}()ورسول الله يقول: ((اغتنم))()(( بادروا))().
إن السعادة لا تحصل بالنوم الطويل، والخلود إلى الدعة، وهجر المعالي، واطراح الفضائل. {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}().
إن من أهم ثمار الإيمان الحي أنك تجد صاحبه مبادرا ومسارعا لفعل الخير، يتحرك في الحياة وكأنه قد رفعت له راية من بعيد, فهو يسعى جاهدا للوصول إليها مهما كلفه ذلك من بذل وتعب وتضحية .. تراه دوما يبحث عن أي باب يقربه من رضا ربه, والتعرض لرحمته, ليندفع إليه مرددا بلسان حاله: لبيك اللهم لبيك .. لبيك وسعديك.
الصحابة والسعادة يبادرون إليها، يتسابقون إليها، يطلبونها، وما كانوا يقعدون عن همم الأمور ومعالي الأفعال، لما قام القوم يحفرون الخندق ما قعد -صلى الله عليه وسلم-، وما جلس متكئا واضعا رجلا على رجل وهو نبيهم وإمامهم وسيدهم وكبيرهم وأميرهم، بل سارع معهم حتى بلغ بهم الجوع مبلغا، ربطوا على بطونهم حجرا، وهو -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ به من الجوع أعظم مما بهم، فربط -صلى الله عليه وسلم- على بطنه حجرين اثنين، ربما فر القوم حال شدة قتال إذا حمي الوطيس، وكشفت المعركة عن ساق، وأشجع القوم، وأكرم القوم، وسيد القوم -صلى الله عليه وسلم- يكرُّ ويفرُّ ويقبل ويقاتل أعداء الله ويصيح وسط المعمعة: ((أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب))() يسارع إلى الخيرات في الجهاد، وما قعد متخلفا عن عباد الله المجاهدين في سبيله.
يسابق في الصلاة حتى تتفطر قدماه، يسابق في الصيام حتى تقول عائشة: ما شئنا نراه صائما إلا رأيناه صائما. يسابق في التواضع حتى إنه ليدني نفسه، وينزل بطول قامته ليحمل طفلا صغيرا يتعثر على الأرض.
وربما قادته عجوز إلى ناحية الطريق، فوقفت به الساعة والساعات يسمع منها –تواضعا- ليقضي حاجتها.
والصحابة: الواحد منهم ينفض جيبه وينظف بيته ويخرج كل ما عنده، لا يبقى في البيت إلا حلس بال، أو شيء لا ينفع للجهاد والبذل، فيقول الرسول: ((ماذا أبقيت؟))() فيقول: أبقيت الله ورسوله.
يسارع عمر -رضي الله عنه وأرضاه- إلى هذا، فيأتي بنصف ماله، يسارع عثمان الذي يعلم أن الله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، فيجهز ويعطي وينفق ويبذل ويمد ويزيد حتى تهلل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه قطعة ذهب تتلألأ، ويقول: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم))().
كانت حياتهم مملؤة بالسعادة, ومغمورة بالطاعة, همّ أحدهم رضاء ربه والظفر بحياة السعادة.
عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يسابق أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- وينافسه، وأبو بكر -رضي الله عنه- أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء -عليهم السلام-، فكان عمر يطمع في أن يغلب أبي بكر مرة، وأن يسبقه في أي باب من أبواب الخير، فلم يظفر بسبقه أبدا مع شدة حرصه على أفعال الخير، فكلما شرع في شيء يفاجأ بأن أبا بكر قد سبقه إليه.
قال بعض الحكماء لبعض الملوك: أوصيك بأربع خصال ترضى بهن ربك، وتصلح معهن رعيتك: لا يغرنك ارتقاء السهل إذا كان المنحدر وعرا، ولا تعدن وعدا ليس في يديك وفاؤه، واعلم أن الأمور بغتات فبادر، واعلم أن الأعمال جزاء، فاتق العذاب().
يقول علي -رضي الله عنه-: تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، فبادروا بالأعمال().
فيا من تريد النجاة والفوز والظفر بسعادة الدنيا والآخرة: إياك والتكاسل والتقاعس والتثبيط, إياك أن تنام نوم الكسالى فتعيش عيشة الحيارى، ولا تضيع من وقتك حتى دقيقة بل قم حالا صلِّ, صمْ, قم من الليل, انفق, تصدق, تضرع, ادعو الله, وإياك أن تفلت فرصة العمر فإنه لا يعوض.
قال ابن الجوزي:كم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل، وهذه الأيام مثل المزرعة، فكأنه قيل للإنسان: كلما بذرت حبة أخرجنا لك ألف كر، فهل يجوز للعاقل أن يتوالى في البذر ويتوانى؟!...فمن عجائب ما أرى من نفسي ومن الخلق كلهم الميل إلى الغفلة عما في أيدينا مع العلم بقصر العمر، وأن زيادة الثواب هناك بقدر العمل ههنا. فيا قصير العمر، اغتنم يومي مني، وانتظر ساعة النفر، وإياك أن تشغل قلبك بغير ما خلق له، واحمل نفسك على المر، واقمعها إذا أبت، ولا تسرح لها في الطول، فما أنت إلا في مرعى.
وقبيح بمن كان بين الصفين أن يتشاغل بغير ما هو فيه... البدار البدار يا أرباب الفهوم، فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى المستقر والقرب من السلطان ومجاورته، فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة، وبالغوا في استعمال الأدب، لتصلحوا للقرب من الحضرة. ولا يشغلنكم عن تضمير الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق ... فليتذكر الساعي حلاوة التسليم إلى الأمين، وليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق، وليحذر المسابق من تقصير لا يمكن استدراكه().